تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالشرط قد سيق مساق الإلهاب والتهييج، كما تقدم، مرارا، فله منطوق النصر بتحقق الشرط، ومفهوم الهزيمة، كما هو واقعنا اليوم، بتخلف الشرط، ففي السياق: جناس ومشاكلة بين النصرتين: نصرة العبد ربه بتصديق وحيه واتباع شرعه، فيصدق العمل العلم، ونصرة الرب عبده في ساحات الجهاد كافة، فليس الأمر مقصورا على ساحة الوغى، فتلك صورة من صور الجهاد، ولكل ساحة سلاحها، فالسنان سلاح الأبدان، والبرهان سلاح الألباب، فإن قصرت همتك عن نصرة الحق في ساحة، فلا أقل من ملء ثغرة في ساحة أخرى، ولكل طاقته، ولا يكلف الله، نفسا، إلا وسعها، فالقدرة مناط التكليف، ومن حيل الشيطان قصر أبواب الخير على أبواب بعينها قد يعجز عنها المكلف، فيصيبه الغم لفواتها، فينصرف عن غيرها، ودين الله، عز وجل، يتسع لكل المكلفين، فمنه ما يلائم القوي، ومنه ما يلائم الضعيف، ومنه ما يلائم الشجاع ومنه ما يلائم الجبان ......... إلخ.

وعند الطبراني، رحمه الله، من حديث: الْحُسَيْنِ بن عَلِيًّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي جَبَانٌ، وَإِنِّي ضَعِيفٌ، قَالَ: "هَلُمَّ إِلَى جِهَادٍ لا شَوْكَةَ فِيهِ، الْحَجُّ". اهـ

وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ: فعطفه على عموم النصرة: عطف خاص على عام، فتثبيت الأقدام صورة من صور النصرة، وهو كناية عن التأييد، فقد تكون القدم أيضا: حسية في موضع القتال بالأبدان، فلا تمتنع إرادة الحقيقة، كما تقرر في حد الكناية عند البلاغيين، فيكون التثبيت للقلب كناية، وللقدم حقيقة، وخصت القدم بالذكر لأن بثباتها ثبات بقية البدن، كما خص القلب بأوصاف الجرأة والشجاعة إذ هو محلها، وقد تكون القدم: معنوية في موضع الجهاد بالحجة والبرهان، فقد يكون الحق مع المستدل، ولكن لسانه يعجز عن إفهامه، فيخذل الحق، لا لعيب فيه، وإنما لعيب في صاحبه، فالحق بلا حجة، كالسهم بلا رام، فمهما بلغ من جودة الصناعة، فإنه لا أثر له، ولا نكاية له في العدو إذ لم يصبه أصلا!، ومن كلام بعض المفكرين المعاصرين من أهل مصر ممن شهد لهم بالفضل وسطوع الحجة ما معناه: الإسلام قضية رابحة ولكن المحامي فاشل!، فيخسر أصحاب الدعوى القضية كما خسرها المسلمون اليوم، لا لأنهم على باطل، ولكن لأنهم محامون فاشلون، لا يصلحون للعمل في مهنة المحاماة ولو: تحت التمرين!.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ:

بيان لحال الطرف الثاني من القسمة الثنائية العقلية: مؤمن وكافر، على ما اطرد في الكتاب العزيز من الجمع بين المتقابلات زيادة في البيان.

والخبر دعائي، وهو آكد في النكاية من الخبر الصريح، على مذهب من يجوز وقوع الإنشاء خبرا، ومن لا يجوز، فإنه يقدر محذوفا يلائم السياق، فتكون الصورة عنده صورة: إيجاز بالحذف، على تقدير: والذين كفروا مقول فيهم: تعسا لهم، وأطنب في وعيدهم نكاية فيهم فلهم من الله، عز وجل، التعاسة، جزاء وفاقا، فهي عقوبة كونية فرعا عن مخالفة الأمر الشرعي، و: أضل أعمالهم، وحذف الفاعل للعلم به، ووقع فعل الإضلال على الأعمال، وإن كان الضال حقيقة هم أصحابها، على وزان قوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، وهم الضالون.

وفي هذه الآية دليل على أن الله، عز وجل، يهدي من يشاء فضلا، ويضل من يشاء عدلا، فإضلاله لهم: حقيقة لا مجاز، فليس إضلاله لهم: تسميتهم ضلالا، كما زعمت القدرية، وإنما أضلهم بحجب نور الحق عن قلوبهم وغلق منافذ الهدى إليها، إذ سبق في علمه الأزلي بمقتضى حكمته البالغة أنهم ليسوا أهلا للإيمان، وإن خوطبوا به شرعا، إذ في إيمانهم فوات حكم تفوق حكمة هدايتهم إلى الحق، وللرب، جل وعلا، حكمة تعجز عقول البشر عن إدراكها، فالسلامة كل السلامة الكف عن الخوض في دقائقها، ولا يستغني العبد عن توفيق الله، عز وجل، بتيسير الخيرات، وصرف المنكرات، وفي الحديث: "يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير