لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ: توكيد بلام الابتداء تنويها بما بعدها، فأي شيء أعظم من مغفرة الله، عز وجل، وقد نكرت تقليلا، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، فأقل مغفرة منه، جل وعلا، خير مما يجمع الجامعون، وأفعل التفضيل: منزوعة الدلالة، فلا وجه للمقارنة بين مغفرة الله، عز وجل، وما يجمعون، ليقال بأنها على حقيقتها، و: "من": لابتداء الغاية، فهي قيد مراد للمتكلم، ورد في سياق الامتنان، فالتنبيه على عطاء الربوبية بالمغفرة مضافة إلى الله، عز وجل، فرع عن إتلاف المقاتل نفسه في قتال مضاف إلى الله، عز وجل، فكما التزم الأمر الإلهي بالقتال، استحق العطاء الرباني بالمغفرة: استحقاق تفضل وامتنان من الله، عز وجل، فلا حق للعبد على ربه إلا ما كتبه الرب، جل وعلا، على نفسه، تكرما منه على عباده، ولو شاء لعذبهم غير ظالم لهم، فهو المعافي فضلا، المبتلي عدلا.
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ: وعطفت الرحمة على المغفرة من باب: عطف اللازم على الملزوم، أو النتيجة على السبب، فلازم المغفرة وستر الذنوب: الفوز بالرحمة الخاصة: رحمة الرحيم بعباده المؤمنين، ونكرت للتقليل، أيضا، على ما اطرد في سياق المنة الربانية، فأقل مغفرة منه وأقل رحمة منه، جل وعلا، خير مما جمع الجامعون، وكنز المكتنزون.
وحذف وصف الرحمة اكتفاء بالقيد الأول، إيجازا بدلالة المتقدم على المتأخر. فتقدير الكلام: لمغفرة من الله ورحمة من الله.
وحذف عائد الصلة، أيضا، في: "يجمعون" على ما اطرد من الإيجاز بحذف ما دل عليه السياق أو استقر عند أهل اللسان جواز حذفه، فشاع بينهم بلا نكير.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ: يقال فيه ما قيل في الآية السابقة، وإنما قدم القتل هناك لكونه مما يتبادر إلى الذهن وقوع المغفرة بعده، وقد ذيلت الآية بها، وقدم الموت هنا، لكونه مما يتبادر إلى الذهن وقوع الحشر بعده، وقد ذيلت الآية به، فهو عام لكل الخلائق: مؤمنين أو كافرين، فليس فيه مزية توجب تقديم القتل في سبيل الله، بخلاف المغفرة والرحمة التي يختص بها أهل الإيمان، لا سيما الشهداء، فذلك مما يوجب تقديم أصحابها.
وإلى طرف من ذلك أشار الطاهر بن عاشور، رحمه الله، بقوله:
"وقُدّم القتل في الأولى والموتُ في الثانية اعتباراً بعطف ما يظنّ أنّه أبْعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سبباً للمغفرة أمر قريب، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد، وكذلك تقديم الموت في الثَّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنَّه بعيد عن أن يعقبه الحشر، مع ما فيه من التفنّن، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده". اهـ
فبدأ بالقتل فالموت فالموت فالقتل، فانتهى بما بدأ به الكلام.
وقوله: "لإلى الله تحشرون": فيه من فنون البلاغة: تقديم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا، فإلى الله، عز وجل، وحده، تحشرون، ففيه نوع إلهاب وتهييج على إخلاص النية في كل أمر إذ المآل إلى العليم بذات الصدور، الخبير بمكنونات القلوب، فلا تخفى عليه خافية من أمركم، ولا ينفع معه تملق أو مداهنة كملوك الدنيا الذين تحشر لهم الجيوش، وقد انطوت صدور أفرادها على الغل والحقد لهم، فلا يطلعون على شيء منها، وربما، بل كثيرا، ما يكون مصرع الملك على أيدي جنده الذين أظهروا الولاء وأبطنوا العداء!، وذلك مما اختص به الرب، جل وعلا، فلا يعلم ما تخفيه الضمائر إلا هو، ولك أن تتصور حال البشر لو كانت صفحات قلوبهم مبسوطة للقراء!. والحمد لله على نعمة الستر.
وتأمل تلك الآيات يقطع بكمال الرب، عز وجل، في مقابل نقص العبد، ففيه من التعريض به بإظهار كمال خالقه ما يحمله على امتثال أمره الشرعي، فإن من له تمام الربوبية: جلالا وجمالا، هو المستحق وحده للعبادة تصديقا وامتثالا، تصديقا بخبر النبوة الصادق، وامتثالا لأمر الشريعة الحاكم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 04 - 2009, 07:00 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
فالتوكيد يلائم ما قد يرد في ذهن المخاطب من تعجب، إذ صورة القتل المادية أمام ناظريه، فناسب نفي تلك الصورة من ذهنه إيرادها مؤكدة إمعانا في تقرير الخبر، وإنما يؤتى من يؤتى في هذا الباب من قياس أحكام دار البرزخ الغيبية على دار الدنيا المشهودة، فليست الحياة كالحياة فرعا عن اختلاف الدارين، فلكل دار أحكامها، وقياس الغائب على الشاهد: قياس مع الفارق، فحياتهم برزخية للروح منها الصدارة، فهي الأصل والجسد فرع عنها، بخلاف حياتهم الدنيوية فإن للبدن منها الصدارة، فهو الأصل في النعيم أو العذاب، وهي الفرع عنه، فتنعم بتنعمه وتتألم بتألمه، بل تفارقه إن فسد فلم يعد محلا قابلا لها.
فالنفي قد تسلط على الموت في دار البرزخ لا الموت المعهود في دار الدنيا، فذلك حوض كل الناس عليه وارد، ثم زيد في تقرير ذلك بالإضراب إبطالا: بل أحياء، مع ما للطباق بالإيجاب بين: أمواتا وأحياء من تقرير للنفي بإيراد ضد المنفي في سياق الإثبات، وقيد الحياة بقيدي: "عِنْدَ رَبِّهِمْ" و "يُرْزَقُونَ"، احترازا عن الحياة الأولى، وشرف المضاف من شرف المضاف إليه، فحياتهم عند الله، عز وجل، أشرف من حياتهم عند غيره، فرعا عن عظم قدره، عز وجل، بالنسبة إلى غيره.
وفي: "يرزقون": تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ لمعنى حياتِهم، إذ الرزق لا يجري إلا على حي كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله.
وفي السياق أيضا: إيجاز بحذف مبتدأ الخبر: "أحياء" فتقدير الكلام: بل هم أحياء، وتقديره يزيد المعنى توكيدا فهم لا غيرهم الأحياء عند ربهم، بمنزلة من يقول: لست جانيا، فيقول المدعي: بل أنت الجاني، فهو بمنزلة: أنت لا غيرك الجاني توكيدا على ارتكابه الجناية.
والله أعلى وأعلم.
¥