ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 04 - 2009, 07:16 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: صيغة مبالغة: "فرِح" تناسب سياق البشرى لمن قتل في سبيل الله، فحالهم: الفرح بسبب ما آتاهم الله من فضله، فليست الباء: باء عوض، إذ لا يقدر أحد، وإن قرض جلده في سبيل الله، على استيفاء شكر المنعم، جل وعلا، بل هو، عز وجل، الذي يشكر القليل، فينميه لصاحبه، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا كَانَ إِنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ يُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ)، فحال العبد من الشكر: العجز، وحال الرب جل وعلا منه: القدرة بفضله وكرمه وكمال صفاته العلية ونفاذ مشيئته الربانية.
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: إجمال للبشرى فيه نوع تشويق عقب بالبيان:
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: فلا خوف عليهم من حاضر أو آت، ولا يحزنون على ماض. فاستوفى اللفظ القسمة العقلية لأحوال الإنسان.
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ: إطناب في مقام البشرى، فيستبشرون بالمسبَب وهو النعمة، والسبب: وهو فضل الله بإيتائها، فما قتلوا في سبيله نعمة إلا بعد أن اصطفاهم لنصرة دينه فضلا، وأي شرف أعظم من شرف الاستعمال في نصرة الحق وملء ثغوره؟!.
وفيه إيجاز بالحذف من المتأخر: "وفضل" لدلالة المتقدم: "بنعمة من الله" على المحذوف، فتقدير الكلام: يستبشرون بنعمة من الله وفضل منه.
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ: تذييل يناسب ما تقدم فالله، عز وجل، لا يضيع أجر من أحسن عملا، وفي ذلك مزيد إلهاب على تصحيح المعتقد وتحرير النية وتجويد العمل، إذ لا يخشى العبد ظلم الرب، تبارك وتعالى، كما يخشى العامل في الدنيا ظلم مالكه أو مستأجره.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 04 - 2009, 09:47 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)
صيغة المضارع فيها استحضار لذلك الموقف، مع كونه ماضيا قد انقضى، لما فيه من العبر، فقد أرادوا شيئا وأراد الله، عز وجل، أمرا.
فظاهره محنة بمقارعة ذوي الشوكة، وحقيقته: منحة بما جرى يوم بدر من ظهور للحق وانكسار للباطل مع ما نالوه من الغنائم، فالنعمة يوم بدر سابغة: دينية بظهور الحق، ودنيوية بنيل المغنم.
وقوله: "أنها لكم": بدل مبين لإجمال ما قبله، فيه من تقرير الوعد ما يحملهم على امتثال الأمر رجاء تحققه، فإحدى الطائفتين لكم فلا ينفك الحال عن ظهور على الكفر وأهله.
وإلى طرف من ذلك أشار الطاهر بن عاشور، رحمه الله، بقوله: "وجملة: {أنّها لكم} في تأويل مصدر، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين، أي: يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم، أي كونها معطاة لكم، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة.
واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة". اهـ
وتودون: بحكم الجبلة البشرية التي تركن إلى السهل، وفي قوله: "ذَاتِ الشَّوْكَةِ": استعارة تزيد المعنى بيانا، فلازم الشوكة المعروفة: الألم إذا غرزت في الجلد، فكذلك سنان العدو إذا طعن به الجسد، فالذهن ينتقل من الملزوم المذكور وهو الأداة التي تقع بها النكاية إلى لازمها وهو: الألم الذي تنفر منه النفوس جبلة.
وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ: إرادة كونية نافذة بأن هيأ أسباب اللقاء من غير ميعاد سابق، وإرادة شرعية آمرة لكم بمناجزة العدو، وإن كرهت نفوسكم القتال، فتلك كراهة طبع لا يؤاخذ المكلف عليها، ولا يتعلق بها الذم إلا إن تمادى صاحبها فصيرها حجة للقعود عن نصرة الدين، فالعبد يسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه وبدنه ما أمكن، ولا يقعده ذلك عن مباشرة أسباب نصرة الدين، ولا يحمله بذل السبب على استجلاب البلاء، واستعجال المواجهة بلا تحضير سابق، واصطناع الأعداء مع إمكان تأليف قلوبهم، فيبذل السبب الشرعي تعبدا، ويكل الأمر الكوني إلى مجري الأسباب، جل وعلا، فقد بذل وسعه و: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، فإن شاء الله، عز وجل، بارك عمله فضلا، وإن شاء رده وأحبطه عدلا، فإن أتي المكلف فمن قبل نفسه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وإن ظهر فمن قبل ربه: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
فأراد الله، عز وجل، يوم بدر: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ: الكونيات النافذة، ولازم ذلك أن: َيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ بهزيمة كاسحة، فذيلت الآية بعطف اللازم على ملزومه، إمعانا في تقرير الحكمة الربانية الباهرة في وقوع ذلك اللقاء بلا ترتيب سابق.
والله أعلى وأعلم.
¥