قصر بأقوى أساليبه: النفي والاستثناء يناسب مقام الامتنان بالبشرى التي نكرت تعظيما فهي بشرى عظيمة الشأن جليلة القدر، أيما جلال، وقد يقال من جهة أخرى: إن القصر إضافي إذ لم يكن ذلك الإنزال لتلك العلة فقط فقد تعددت علله فهو: بشرى للمؤمنين، وسبب في نصرهم، وعذاب لعدوهم، وجريان لسنة الله، عز وجل، الشرعية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ............... إلخ.
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ: إطناب في معرض الامتنان، وهو ما يؤكد أن القصر إضافي إذ تلك علة جديدة، وقدم المطمئِن، بالكسر، على المطمئَن، بالفتح، عناية بشأنه تقريرا لنعمة الله، عز وجل، أن تفضل به على الجيش الذي أخذ بالأسباب الشرعية فكوفئ بتصريف قلوب جنوده على الثبات، في حين صرفت قلوب خصومه على الرعب، فالتلازم مطرد بين تحقيق الأسباب الشرعية الآمرة والنصرة بالأسباب الكونية النافذة، واسأل الكافر والعاصي عن سبب رهبته من المؤمن والطائع، وإن كان أقل منه عددا وأضعف منه عدة، فلا تجد إلا السنة الكونية التي يعجز عن تفسيرها من يقيم أمره على الأسباب المادية فقط، فجماع الأمر: شرع بأخذ أسباب المادة، وقدر باستجلاب النصر ممن بيده مقادير الكون، فكلمته التكوينية النافذة فيصل بين المتنازعين، فينصر من شاء فضلا ويخذل من شاء عدلا.
وخص الطمأنينة بالقلوب إذ هي محلها.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: قصر حقيقي بأقوى أساليبه مؤكد لما تقدم من نفاذ أمره الكوني، فلا نصر إلا بإذنه.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: تذييل معنوي يناسب ما تقدم فهو بمنزلة الجواب المبين لعلة ما تقدمه، فكأن المخاطب لما سمع قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، تولد في ذهنه السؤال عن سبب ذلك، فجاء الجواب مفصولا بلا عاطف لشبه كمال الاتصال بينه وبين السؤال إذ هو علته، والتلازم بين العلة والمعلول تلازم قوي يحسن معه الفصل، فجواب سؤالك: لأن الله عزيز حكيم، والتذييل بصفة العزة وهي من صفات الجلال يناسب سياق النصرة، فلا ينصر إلا العزيز الذي لا ينال جانبه ولا جانب من التجأ إليه، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها، فينصر من يستحق فضلا، ويخذل من لا يستحق عدلا، فأفعاله جارية على مقتضى: قدرته النافذة وحكمته الباهرة، وذلك فقه قدره، عز وجل، فالجمع بين: الحكمة ومتعلقها من الشرع، والقدرة ومتعلقها من القدر من أنفع ما يحصله المكلف من العلم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 04 - 2009, 08:30 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ)
جريا على ما اطرد من استحضار الصورة بإيراد المضارع في بيان صورة منقضية استحضارا للمنة الربانية.
أمنة منه: فالنعاس في مواضع القتال من علامات الإيمان، و: "من" لابتداء الغاية، وابتداء غايته من الله، عز وجل، جار مجرى التشريف، كما أشار إلى ذلك الطاهر بن عاشور، رحمه الله، وذلك على وزان قوله تعالى: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ)، فليس النصر من غير الله، عز وجل، كالنصر من عنده، فذاك: غلبة مادية، وهذا: ظهور حجة وبرهان بسيف وسنان الحق.
ومن جرب الغفوة اليسيرة التي تجدد النشاط عرف عظم امتنان الله، عز وجل، على أولئك النفر الكرام، رضي الله عنهم، بأن منحهم تلك الراحة القصيرة في زمنها العظيمة في نفعها في ذلك الموقف العصيب الذي يذهل فيه اللبيب، فتجدد نشاطهم وصاروا أقدر على بذل السبب الشرعي في نزال عدوهم.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ: أي من السحاب، فيكون في الكلام مجاز عند من يقول به، إذ أطلق المحل وأراد الحال فيه، ومن ينكر المجاز يقول: السماء كل ما علاك، والسحاب يعلوك فهو سماء بالنسبة لك، فقد نزل المطر من العلو حقيقة لا مجازا.
مَاءً: نكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق الذي يستدل به الفقهاء في أحكام المياه.
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ: حسا.
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ: معنى.
والعطف بينهما: عطف متلازمين، فالغسل من الجنابة لازمه ذهاب الرجز والكسل الذي يعتري الإنسان إذا أجنب، فيزول عن نفسه خبثها، ويتجدد لها نشاطها، وذلك مما يقطع طرق الشيطان إليها، إذ بذل السبب الشرعي بالغل الواجب: طهارة للجسد موطئة لطهارة الروح، ولا أدل على ذلك من نوم المتوضئ إذا بدل السبب الشرعي بالحرص على الطهارة البدنية بالوضوء والطهارة الروحية بالأذكار وتخلية القلب من الأحقاد والضغائن التي تنغص على صاحبها نومه. والشرع خير كله: خير للروح والبدن، خير للمعاش والمعاد .......... إلخ.
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ: معنى.
وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ: حسا.
وهما أيضا متلازمان: فإن الملك إذا ثبت، فثباته تثبت الأجناد، وإذا زاع انهزمت عساكره واستبيحت دساكره.
فقد عمت النعمة السابغة القلوب والأبدان لما التزمت الأمر الشرعي فصارت أهلا للمدد الرباني، وفي الإطناب بذكر موارد النفع من ذلك الماء المبارك تقرير بديع لتلك المنة الربانية.
والله أعلى وأعلم.
¥