تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذ أنتم: عطف بيان ثان لمشهد من مشاهد ذلك اليوم الجليل استحضارا للمنة الربانية السابغة فيه. وفيه تفصيل لحال أطراف النزاع، إن صح التعبير، فأنتم بالعدوة الدنيا، و "هم": كناية بضمير الغائب كراهة ذكرهم صراحة، فهم أحقر من أن يذكروا باسم أو وصف إلا وصف الذم القادح، أو ضمير البعيد الغائب، والركب أسفل منكم.

وفي ذلك العرض مزيد امتنان من الله، عز وجل، على عباده المؤمنين، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، إذ العدوة الدنيا لينة تسيخ فيها الأقدام، فنزل المطر فصلبت وبنى المسلمون حوضا يستقون منه وغوروا ما سواه، وهم بالعدوة القصوى قد جمعوا العدة والعتاد، وخرجوا دفاعا عن الأموال والتجارات، فنزل المطر فكان في حقهم عائقا، فالفعل واحد ولكنه: نعمة في حق أقوام نقمة في حق آخرين.

ولو قيس الأمر بميزان الدنيا ابتداء: لرجحت كفتهم، ولكن الشأن: شأن الإيمان الذي يثبت الله به قلوب أوليائه في مقابل الرعب الذي تطير منه أفئدة أعدائه إذا التقت الجيوش والتحمت الصفوف.

وإلى طرف من ذلك أشار الطاهر بن عاشور رحمه الله:

"وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع. ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة". اهـ

وذلك بخلاف الكتب الأخرى التي دخلها التبديل وزيد فيها ونقص منها تبعا لأهواء كُتابِها، فصارت أشبه بكتب السير، بل كتب السير أحسن حالا منها من جهة النقل سندا ومتنا، فضلا عن إسهاب مؤلفيها في سرد أسماء الأماكن بصورة جعلتها كتبا جغرافية! على ما فيها من ثغرات مكنت بعض النقاد من القدح في نسبتها إلى أصحابها، وجعلتها محل تندر بعض آخر كفولتير أحد مبشري العلمانية قبل ظهورها رسميا بميلاد الجمهورية الفرنسية.

وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا: قضاء كونيا نافذا لا مرد له، وإن لم يقع الترتيب منكم أو منهم، ولذلك حكمة ربانية بالغة أجملها بقوله: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)، ثم بين هذا الإجنال ببدل تلا مبدله تلاوة المبين مجمله، فبعد استثارة الأذهان بالأول جاء البيان الشافي بالثاني:

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ: مقابلة بين الفريقين: الهالك والناجي، فقد قامت الحجة الرسالية عليهما فلا عذر بعد حصول البيان، إذ ذلك مظنة الامتثال، فلا يستوي من علم، ومن جهل، وإن كان الجهل مظنة الذم، إذ لا يخلو صاحبه من نوع تقصير في طلب الحق فإن الله، عز وجل، قد أقام على الحق، لمن هدي فتأمل، البينات الواضحات الموضِحات، فمن تجرد في طلبه فإن الله، عز وجل، يهديه إليه فضلا، ولو شاء لأضله عدلا، ولا يظلم ربك أحدا.

والهلاك: معنوي للأديان، مادي للأبدان، ولا إشكال في الجمع بينهما، إذ الكافر: هالك في دينه هالك في بدنه إذا تصدى له مؤمن قد جمع أسباب القوة الروحية والمادية امتثال قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، وإن ظهر الكافر فبرهة، فمآله: الهلاك، بينما المؤمن: ناج في كليهما فعقد قلبه سليم وبدنه صحيح، إن ظفر بعدوه، وإن أصيب، فإلى دار خير من الدار، وإلى حال أكمل من الحال، فيبدله الله، عز وجل، بدنا أكمل من بدنه، وأهلا خيرا من أهله، ودارا خير من داره، ورزقا خيرا من رزقه، وفي التنزيل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير