تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النبوات: صحة النقل، وذلك مما انفرد به أهل الإسلام، فليس لأمة من الأمم إسناد إلى النبي الذي تنتسب إليه، أو حتى المفكر أو المصلح الذي تنتحل مقالته إن كانت ممن لم تنعم بجنس النبوات، ليس لكل أولئك ولو سند واحد صحيح إلى معظميهم، بخلاف أمة الإسلام: أمة الإسناد.

ومعرفة مراد القائل: فإن كان قوله مترجما كأناجيل النصارى، لو سلم بأن المسيح عليه السلام قد نطق بكل ما فيها فهي أشبه إلى كتب السير منها إلى الوحي المنزل، إن كان كذلك فلا بد من التأكد من دقة الترجمة حتى لا تحمل الألفاظ المتشابهة من المعاني الباطلة ما تحمل، فقد تفسد الترجمة المعنى، وقد تصيره متشابها بعد أن كان محكما لاختلاف أعراف اللغات، فما تواتر في عصر فصار محكما معلوم المعنى قد يخفى معناه في عصر آخر حتى يصير مجملا يفتقر إلى البيان.

وإن كان قوله منقولا بلغته فلا بد من ملاحظة عرف الخطاب في عصره، فلا يفسر كلامه باصطلاح حادث بعده، ولذلك كان الصدر الأول، خير طباق الأمة، أعلم الناس بمراد الشارع، عز وجل، فرعا عن كونهم أهل اللسان الذي نزل به الوحي، فكانت لغة الوحي لغتهم قبل طروء العجمة، وقصر الألفاظ على معان اصطلاحية حادثة تعارف عليها أصحاب الفنون بعد تدوين العلوم.

وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا: عطف لازم على ملزومه، فإن لازم الطاعة لله ورسوله: عدم التنازع في الأمر، إذ لا مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله، فتطرد الأقوال والأفعال، فلا يقع فيها ما يقع في الأقوال والأعمال المحدثة من تفاوت واضطراب تبعا لأهواء القائلين وعقول المفتين، فكل يستحسن ويستقبح بعقله، والوحي قد عزل عن منصب البيان. والفاء تفريعية سببية تفيد الفورية، فالفشل فرع عن التنازع، مسبب عنه، تال له.

وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ: استعارة جريان الريح واطرادها لجريان أمر الجيش وظهوره إذا استقام على الطريقة النبوية فهو غالب منصور، ولكنه مبتلى بالثبات على الأمر الشرعي والرضا والتسليم بالأمر الكوني، وذلك يستلزم صبرا نص على الأمر به فقال:

وَاصْبِرُوا، وعلة ذلك: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وحسن الفصل، كما تقدم مرارا، لشبه كمال الاتصال بين المعلول وعلته وهي قائمة مقام: التذييل اللفظي المشتق من مادة الأمر: "الصبر"، التي علق عليها حكم المعية الربانية الخاصة لأهل الصبر: معية النصرة والتأييد والتثبيت في مواضع الزلزلة ففي السياق إيماء إلى منفعة الصبر بدلالة منطوقه، وتعريض بمن لم يلتزمه بدلالة مفهومه، فقد علق الحكم إيجابا على وجود المعنى الذي اشتق منه وصف: "الصابرين"، وسلبا على زوال ذلك المعنى فالأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما كما قرر أهل العلم.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 04 - 2009, 09:39 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

نهي شرعي عطف على الأمر بالصبر، فالشريعة: إيجاب وسلب، إيجاب للممدوحات فعلا، سلب للمذمومات كفا، وأشار الطاهر بن عاشور، رحمه الله، إلى وجه آخر تكون فيه من باب عطف النهي على النهي بقوله: "جملة: {ولا تكونوا} معطوفة على {ولا تنازعوا} [الأنفال: 46] عطف نهي على نهي".

وأشار إلى وجه ثالث يكون العطف فيه على أمر آخر فقال:

"ويصحّ أن تكون معطوفة على جملة {فاثبتوا} [الأنفال: 45] عطف نهي على أمر، إكمالاً لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء، بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر، وأن يتجنّبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد"

وأيا كان الأمر فإن ذلك العطف مما يستوجب استجلاب النصر باستكمال أسبابه من ثبات وصبر وخضوع وتواضع وإخلاص لله، عز وجل، بالنهي عن ضده من البطر والرياء، فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده، كما قرر الأصوليون، وليس النهي بمنزلة الأمر، فالأخير أشرف منه، ولذلك كان فعل جنس الطاعات أشرف من ترك جنس المعاصي، إذ الأول مراد لذاته، بخلاف الثاني الذي يراد لذاته من جهة امتثال النهي، ولكنه في حقيقته مراد لغيره، إذ لازمه التلبس بضده من الطاعة، فهو كالقيد الاحترازي الذي يحمى به جانب الإيمان، بخلاف الطاعة التي هي جزء من بنيان الإيمان، فهي شرط لكماله الواجب للخروج من دائرة الذم الشرعي والوعيد بالعقاب الأخروي، وليس ما أريد لغيره كما أريد لذاته، فالثاني كما تقدم أشرف وأعلى رتبة.

وجاء الحال بالمصدر: بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ: مبالغة في الذم، على وزان: جاء زيد مشيا، فهو أبلغ في وصف حاله متلبسا بالفعل من جاء زيد ماشيا، أو جاء زيد: يمشي.

وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: عدول عن الوصف بالاسم إلى الوصف بالفعل إرادة بيان التجدد والحدوث، كما أشار إلى ذلك الطاهر بن عاشور، رحمه الله، فذلك دأبهم الدائم فليس وصفا عارضا، وإنما هم، كأهل الباطل في كل زمان، مصرون عليه ساعون فيه، قد عقدوا العزائم والنوايا على نصرته، وشمروا السواعد وأنفقوا الأموال وجندوا العقول والأذهان طلبا لغلبته، فالسنة الكونية مطردة إذ بجلدهم على الكفران تظهر مزية أهل الإيمان، فيقع التدافع بين الحق القديم والباطل المحدث.

والله بما يعملون محيط: تذييل بصفة علم الإحاطة الكونية، فقد علم الله، عز وجل، ما هم فاعلون أزلا، وفي ذلك تهديد ووعيد لهم، وتعريض بكل من زين له شيطانه محادة الله، عز وجل، وحرب أوليائه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير