ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 04 - 2009, 09:11 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
إيجاز بحذف العامل، فتقدير الكلام: واذكر إذ، وتزيين الشيطان لهم، إنما هو بإرادة الله، عز وجل، الكونية، فهو عقوبة قدرية لمخالفة الأمر الشرعي، فلا يتسلط الشيطان ذو الكيد الضعيف على الإنسان إلا إذا ابتعد عن الله، عز وجل، فسقطت حصون إيمانه تحت وطأة حصار شياطين الإنس والجن لها، فلم يكن لهم أن يقتحموها إلا فرعا عن تفريطه الشرعي في جناب ربه العلي، فإرسالهم عليه: عقوبة كونية مقدرة، وفي التنزيل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).
ثم جاء بيان ذلك التزيين بعد إجماله فأطنب في خداعهم فقال: لا غالب لكم اليوم، و: "أل" في: "اليوم": للعهد الحضوري أي: يوم بدر، و: "أل" في الناس: عهدية ذهنية تشير إلى المؤمنين أو على أصلها: جنسية استغراقية إمعانا في التغرير بهم بوعوده الكاذبة التي زادتهم بطرا ورئاء فظنوا أنهم الأعلون، وهم الأدنون، وواصل خداعه فقال وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ:، ثم كانت عاقبة الأمر: أن فر، وأطنب في الاحتجاج كما أطنب في الاستدراج، (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، وإظهار الاسم الكريم في موضع الإضمار في: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، فيه من بيان العظمة والجلالة الإلهية ما يناسب سياق وعيد من تصدى لحرب جند الرحمن من الملائكة الكرام والصحب الأخيار رضي الله عنهم.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 04 - 2009, 09:04 ص]ـ
وقوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49))
استحضار لحال المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهم صنف سرى الشك إليه، ولما يدخل الإيمان في قلبه، وإن حصل له إسلام في الجملة، وهم بالنسبة لجمهور المؤمنين قلة، بل إنهم عند التحقيق، خارجون عنهم، بائنون منهم، بدليل إشارة أولئك للمؤمنين بإشارة البعيد: "هؤلاء" فدل ذلك على أنهم لم يكونوا من الطائفة المنصورة آنذاك، وهذا أمر مشاهد في كل زمان، فتجد المؤمن الجازم، وتجد المؤمن المضطرب الشاك فهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وإن كان مؤمنا في الجملة إيمانا يخرجه عن حد الكفران، وتجد المنافق الذي يستخفي بنفاقه فإذا ما واتته أي فرصة أظهر مكنون صدره من غل وحقد على الدين وأهله، وتأمل حال العلمانيين في زماننا، وقد حصل لهم نوع تمكين إملاء واستدراجا لهم، وعقابا وابتلاء للمؤمنين، ففتنتهم عقاب لمن قصر في الأخذ بأسباب الشرع العاصم، ابتلاء لأهل الإيمان تجري به سنة التدافع بين الحق والباطل.
والقول في هذا السياق: قول لفظي في حق المنافقين فقد ظهر على ألسنتهم صراحة، وقول في النفس في حق ضعاف الإيمان فلم تنطق بها ألسنتهم، وإلا نافقوا بذلك، بل نزل شك صدورهم منزلة القول بجامع ظهور الحال بكليهما فاللسان لسانان: لسان مقال ولسان حال.
وقد استعار المرض الحسي للمرض المعنوي، ونص على موضع الداء، إذ الشبهات والشهوات إنما تصيب القلوب ابتداء فيظهر فسادها على الألسنة والجوارح انتهاء، فكل فساد عملي، فإنما هو فرع عن فساد القلب العلمي، فالحكم فرع عن التصور، بصلاحه يصلح وبفساده يفسد.
غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ: بأن وعدهم النصر، ففيه مجاز إسنادي، عند من يقول بالمجاز إذ نسب الفعل إلى الدين إجمالا، وإلى نصوص الوعد بالنصر والتمكين تحديدا، من قبيل: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، وأشير إلى المسلمين إشارة البعيد مع عدم تقدم ذكرهم، فلا مرجع لاسم الإشارة، لدلالة السياق عليه، فكلام المنافقين ومرضى القلوب لن يتناول بالذم والثلب إلا المؤمنين.
وفي المقابل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:
فهو شرط سيق مساق الوعد، ففيه نوع حض على التوكل على الله، عز وجل، بعد الأخذ بأسباب النصر الكونية، إذ من توكل عليه فإنه: العزيز الذي لا يغلب ولا يغلب من التجأ إلى حماه، وهو الحكيم فلا يهب النصر لمن لا يستحق ممن عطل الشرع والكون، فلم يمتثل الأمر شرعا ولم يعد العدة كونا، فإن في ترك العمل بالشرع شؤما تباد به أعظم الجيوش، وفي ترك الأخذ بأسباب الكون: نقصا في العقول يستحق أصحابه التعزير إذ عطلوا السنن التي أقام الله، عز وجل، عليها كونه.
وكل يبذل السبب في تحصيل مراده ولكن المؤمن يمتاز عن غيره باستحضار النية التي تصير العادة الكونية العامة: عبادة شرعية خاصة.
وقد أظهر الاسم الكريم: "الله" في: "فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، وحقه الإضمار لتقدم ذكره تربية للمهابة في قلوب الكافرين المغلوبين، والعزة في قلوب المؤمنين الغالبين.
والله أعلى وأعلم.
¥