ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 04 - 2009, 09:45 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
استحضار لحال الكفار حين الاحتضار، وقتلاهم في الحرب أولى الناس بالحكم، إذ هم الأعظم جناية بمباشرة أسباب الحرب لله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فضلا عن دلالة السياق على ذلك، فبعد فرار الشيطان الذي خذلهم، وقعت فيهم المقتلة والمأسرة، والتبكيت بالفعل: ضربا للوجوه والأدبار فعم ما أقبل وأدبر، والقول: ذوقوا عذاب الحريق، فالأمر: أمر إهانة، وجيء بالمصدر وصفا كناية عن شدة إحراق العذاب وإيلامه.
وجعله الطاهر بن عاشور، رحمه الله، من إضافة الجنس إلى نوعه بيانا، فنوع العذاب: عذاب الحريق.
ذلك: ما تقدم، بسبب أعمالكم، وخصت الأيدي بالذكر لأنها آكد ألات مباشرة الأفعال واكتسابها.
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ: نفي وصف نقص عن الباري، عز وجل، أكد بالناسخ المؤكد: "أن"، واسمية الجملة، ودخول الباء على خبر الناسخ، ونفي النقص في باب الصفات الإلهية: يستلزم إثبات كمال ضده لرب البرية، جل وعلا، فليس النفي المحض مدحا حتى يقترن بإثبات كمال ضده، فمفهوم الكلام: بل هو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، فقد حكم عليهم بالكفر بإرادته الكونية النافذة لحكمة جريان سنة المدافعة بين الحق والباطل، ولم يظلمكم شيئا، إذ ليس مفتقرا إلى ما في أيديكم من عطاياه التي من بها عليكم ابتداء، ليس مفتقرا إليها ليظلمكم بسلبه إياها، فالهدى فيض من عطاياه، إن كان لكم من دونه فقد ظلمكم إياه، وليس ذلك بحق، بل هو محض عطائه يهبه من شاء فضلا ويمنعه من شاء عدلا.
وجيء بصيغة المبالغة إشارة إلى تعدد العبيد، فلا مفهوم لصيغة المبالغة ليقال ليس بظلام، ولكنه قد يكون ظالما، تعالى الملك عن ذلك علوا كبيرا.
وإليه أشار الطاهر بن عاشور، رحمه الله، بقوله:
"ونفي ظَلاَّم بصيغة المبالغة لا يفيد إثبات ظلم غير قوي؛ لأنّ الصيغ لا مفاهيم لها، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأنّ المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيراً في مثل هذا، ويزاد هنا الجواب باحتمال أنّ الكثرة باعتبار تعلّق الظلم المنفي، لو قدر ثبوته، بالعبيد الكثيرين، فعبّر بالمبالغة عن كثرة أعداد الظلم باعتبار تعدّد أفراد معموله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 05 - 2009, 09:23 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)
قدم الحكم تنفيرا ممن حاله كذلك، فذلك أبلغ في مخالفة طريقته، فالأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، وقد نزل بهم وصف الكفر إلى دركة الدواب، بل شرها، وذلك من الدناءة بمكان.
فهم لا يؤمنون: فرع عما تقدم، في معرض الإطناب في الذم، فلازم ذلك الوصف: هذا الحكم فلا يتصور إيمان على جهة التكليف من بهيم شرير.
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ:
إجابة عن سؤال مقدر عن حال أولئك لئلا يتلبس المكلف بوصفهم، فمن أولئك الذين استحقوا ذلك الذم؟: الذين، فيكون في السياق حذف للمبتدأ على تقدير: هم الذين، أو: يقال بنصب الموصول على جهة الذم، أو على جهة البدل أو عطف البيان من: "الذين كفروا"، وكلها مجلية موضحة لحالهم وإن امتاز كلٌ بمعنى لا يوجد في غيره.
فهم: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: وصيغة المضارع، كما يقول أبو السعود، رحمه الله، مئنة من التجدد فتلك حالهم المطردة، فقد انطوت الصدور على نية الغدر سلفا، وإن تظاهروا بالوفاء حينا، فإن صارت المصلحة النفعية العاجلة في نقض العهود نقضت ومزقت، وتأمل حالهم من زمن الرسالة إلى يوم الناس هذا، فالغدر أصل والوفاء استثناء، وما ذلك إلا لفساد تصورهم العلمي، فلو قدروا الله، عز وجل، حق قدره، فعلموا أنه مطلع على سرائرهم لأورثهم ذلك نوع تعظيم للعهود والمواثيق، على جهة التدين، ولكنهم أساءوا الأدب معه فوصفوه بأوصاف النقص، فقل تعظيمه، جل وعلا، في نفوسهم، فتجرءوا على نقض عهده وقتل رسله وحرب أوليائه، وكل فساد في العمل فإنما مرجعه عند التحقيق لفساد في العلم عريض.
وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ: تذييل منزل منزلة العلة لما قبله، فهم لا يتقون رهبة ولا يرجون رغبة ليلتزموا أمرا شرعيا، فغايتهم تحصيل منفعة عاجلة ولو بأدنى الحيل وأخس الطرق.
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ: تفريع عما تقدم. وفي مقام الحث على قتالهم جيء بالتوكيد بالنون المثقلة، إذ ما تقدم من سوء وصفهم وفساد طريقتهم مظنة التوكيد على استئصالهم إذا جمعتنا بهم ساحة قتال.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ: فلعل حرارة السيف توقظ قلوبهم من غفوتها، فتؤتي الشدة من الثمرة ما لا يؤتيه اللين، ولكل موضع، فمن الناس من تلائمه الحجة والبرهان، ومنهم من يلائمه السيف والسنان.
والله أعلى وأعلم.
¥