تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، الذي أنعم عليه بالخلق ابتداء، فأوجده من عدم، ولم يك شيئا، ثم أعده فزوده بآلات الإدراك، ثم أمده بمدد النبوات، وليس له فيه غرض، فلم يتودد إليه تودد المخلوق الذي يصانع المخلوق لغاية يريدها منه، فإذا نالها أعرض ونأى بجانبه، وإنما خلقه ليكرمه في الدنيا باتباع روح: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، وفي الآخرة بروح: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)، فروح الدنيا يستلزم روح الآخرة، ومن فاز به في الدنيا فاز به في الآخرة، فهنيئا له!، فهو في روح دائم يتنقل في رياض جنان الأرض، جنان: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ حِلَقُ الذِّكْرِ"، فيرتع فيها فإذا ما انتقل إلى جوار الرب الكريم ذي الأفضال والمنن، جل في علاه، فهو مرتحل من جنان الذكر الأرضية إلى جنان الخلد السماوية حيث جوار الرحمن، تبارك زتعالى، والجزاء من جنس العمل، فإنه استحق الجوار الأخروي فرعا عن الجوار الدنيوي، فصبر نفسه مع الذين يدعون رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فكان أهلا لـ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وعودة إلى سياق الآيات:

حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ: مفهوم غاية، فلما بعد الغاية نقيض ما قبلها، فإن المصلحة الشرعية تقتضي الإثخان في العدو قتلا حتى إذا انهارت قواه، ووقعت النكاية في صفوفه: ساغ عندئذ اتخاذ الأسرى منه، إذ قد تحقق الغرض من الإثخان فزال الحكم بزوال علته، إذ المصلحة الشرعية بعد كسر شوكة العدو قد تكون في اتخاذ الأسرى لفداء أسرى المسلمين، أو لعل الأسرى من العدو يرون من عدل الإسلام وفضله ما يكون سببا في هدايتهم، وهذا أمر ظاهر، إذ المسلمون عموما وأهل السنة خصوصا، أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، بشهادة خصومهم، فليسوا كغيرهم يرون القتل وإراقة الدماء تشفيا: غرضا مرادا لذاته، بل القتل عندهم مراد لغيره، فمتى حصل المراد بكسر شوكة العدو وإزالة العوائق أمام انتشار دعوة الحق صار حكم القتل على الجواز، فللإمام أن يمن ابتداء، وله أن يقبل الفداء، كما وقع يوم بدر، وله أن يقتل إن كانت المصلحة في ذلك، فإن القتل لم يصر محرما بمقتضى مفهوم الغاية، وإنما انتقل من مرتبة الوجوب إلى مرتبة الجواز، وتلك مسائل دقيقة لا يتقنها إلا علماء الشرع وأمراء الحرب، فالحكم يدور مع المصلحة الشرعية وجودا وعدما، فالمصلحة الشرعية المعتبرة في مسائل كتلك التي يسوغ الاجتهاد البشري فيها، إذ هي من باب الأحكام القضائية، تلك المصلحة هي قطب الرحى.

و: "نبي": نكرة في سياق النفي تفيد العموم، والأنبياء مقصودون أصلا بذلك العموم، ومن وراءهم من أقوامهم مقصودون بالتبع، إذ النبي المقاتل يجري قتاله مجرى التشريع لأمته، فمقام العصمة مظنة الاقتداء، إذ التسليم لأمر المعصوم هو عين العصمة.

وقد يقال في هذا الموضع: إن النفي: خبر أريد به إنشاء النهي، أو يقال كما قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: "وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح، كما هُنا، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة". اهـ

فقد فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلاف الأولى فعاتبه، ربه، عز وجل، وذلك أليق بمقام النبوة.

تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:

علة ما تقدم، ولذلك حسن الفصل إذ اقتران العلة بالمعلول: اقتران وثيق يسوغ الفصل، لشبه كمال الاتصال المعنوي بينهما.

وقد يقال بأن في السياق حذفا على تقدير استفهام إنكاري يلائم سياق العتاب، فيكون تقدير الكلام: أتريدون بذلك عرض الحياة الدنيا؟!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير