تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي السياق طباق بين إرادتهم عرض الدنيا السريع الزوال، وإرادة الله، عز وجل، ثواب الآخرة، الذي حذف لدلالة المتقدم عليه على ما اطرد في كلام العرب، فالمتقدم المذكور يدل على المتأخر المحذوف، فحذف المضاف: "ثواب" وأقيم المضاف إليه: "الآخرة" مقامه، وقرينة السياق تدل على المحذوف إذ الكلام في معرض المقارنة بين عرض الديا الفاني وثواب الآخرة الباقي، وحسن ذكر المضاف مع الدنيا، لدلالة مادته على معنى العروض الطارئ الذي سرعان ما يزول، فهو يفيد بنفسه معنى زائدا يثري السياق، فهو وإن كان ثوابا، إلا أن معنى العروض لا ينفك عنه، وذلك أدعى إلى الزهد فيه، ولو كان ذهبا، وثواب الآخرة: خزفا، ما عدل العاقل عن الخزف الباقي إلى الذهب الفاني، إذ منفعة الخزف إن قدر له الدوام أعظم من منفعة الذهب المحكوم عليه بالفناء، وإن كان جنس الذهب أشرف من جنس الخزف، فكيف والدنيا هي الخزف الفاني، فاجتمع لها الجنس والوصف الأدنيان، والآخرة هي: الذهب الباقي، فاجتمع لها الوصفان الأعليان، أيستبدل العاقل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!

وأظهر الاسم الكريم في موضع الإضمار في التذييل بقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، تنويها بذكره، جل وعلا، وتربية للمهابة في مقام التعليم والتذييل بوصفي العزة والحكمة يلائم السياق، إذ العزيز مستغن عن غيره فكذلك شأن عباده أصحاب الهمم العالية، فالأليق بهم الاستغناء عن عرض الدنيا الزائل، ووصف: "الحكيم"، كما يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله: "يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه". فالمنفعة الحق فيما شرعه الله، عز وجل، في الإثخان في العدو في هذا الموضع خصوصا، وفي كل مواضع التشريع عموما، فحيث كان االشرع كانت المصلحة العاجلة والآجلة، وإن كان ظاهره المشقة، فهي مشقة غير معتبرة في مقابل المصلحة العظمى الحاصلة من إنفاذ أحكام الشرع المنزل، والمصلحة الخالصة في دار التكليف عزيزة إن لم تكن محالة، فالدنيا دار اجتمع فيها الخير والشر، فحيث غلب أحدهما على الفعل أو العين ترجح حكمه، وحيث استويا، إن تصور ذلك، غلب جانب التحريم احتياطا، إلا أن يقال بأن الأصل في الأعيان والأفعال الإباحة، ويرد على ذلك أن الأصل في بعض الأعيان والأفعال الحرمة كالأبضاع والذبائح.

بخلاف الآخرة فإن فيها دارين: دار خير خالص، و: دار شر خالص، فمن كان من أهل الخير الخالص كالمؤمن الذي استكمل شروط الإيمان المنجي، فمآله: دار الخير الخالص، ومن كان من أهل الشر الخالص كالكافر فمآله: دار الشر الخالص، ومن كان مخلطا معه أصل التوحيد فقد اجتمع فيه العنصران، فيدخل النار إلا أن يعفو عنه الباري، عز وجل، أو يشفع له شافع كما تقرر في أصول الدين، فكير النار يذهب خبث روحه فتخلص من الشوائب وتصير أهلا لجوار الباري، عز وجل، في دار الخير المحض، إذ قد طهرت فصارت من صنف الخير المحض الذي تلائمه دار الخير المحض.

وفي ذلك رد على المتكلمين من نفاة التعليل، وإن أثبتوه في الفروع، فقد تناقضوا بنفيه في الأصول وإثباته في الفروع، فجلهم يقول بالقياس، والقياس يستلزم تنقيح أو تخريج المناط الذي علق عليه حكم الأصل فهو العلة المتعدية إلى الفرع، فتعدى حكم الأصل إليه بجامع تلك العلة المشتركة، فالأحكام الشرعية ذات علل وحكم علمها من علمها وجهلها من جهلها، فلأفعاله، عز وجل، حكم، لا يستلزم إثباتها تعليل الأحكام بالأغراض التي تدل على حاجة الفاعل إليها، فتلك شبهتهم، إذ راموا تنزيه الباري، عز وجل، عن الافتقار إلى الأغراض، وما ذلك إلا فرع عن قياسهم أفعال الخالق، عز وجل، على أفعال المخلوق، فهو الذي يصح تعليل أفعاله بالأغراض، إذ هو مفتقر إليها، بخلاف الباري، عز وجل، الغني في ذاته، المغني لعباده، فلا يفتقر إلى ما سواه، بل كل الأسباب إليه مفتقرة، فهي عن خلقه صادرة، فهو الذي خلق السبب وجعله مئنة من وقوع مسببه بمقتضى سنته الكونية الجارية، فهي ماضية إلا أن يشاء الله، عز وجل، خرقها معجزة لنبي أو كرامة لولي أو فتنة بدجال غوي.

فأفعاله، عز وجل، أفعال حكيمة في نفسها، فوصف الحكمة ملازم لها إذ قد بلغت الغاية فيه، بخلاف ما قرره المتكلمون الذين جعلوا وقوع الحكم عقيبها من باب الاقتران غير المؤثر جريا على طريقتهم في الكسب، فنزعوا عنها وصف الجكمة، وتحيلوا في تخريج المنافع المترتبة عليها فجعلوها من باب الاتفاق العارض لا الإتقان المراد ابتداء، وتلك أقوال في غاية التكلف التزمها من التزمها تنزيها للباري، عز وجل، عن مشابهة المخلوق، فجردوه من كمال الأفعال إذ شبهوه أولا بالمخلوق فأفعاله كأفعال خلقه!، فنفرت نفوسهم من لازم ذلك القياس الفاسد، فاضطرهم ذلك إلى نفي صفة الكمال التي يشترك المخلوق معه فيها اشتراكا معنويا كليا لا يستلزم إثباته تشبيها أو تمثيلا، إذ هو مما يوجد في الأذهان مطلقا لا في الأعيان مقيدا بعين فلان أو فلان من خلقه ليقال بأن في ذلك الإثبات قياسه، عز وجل، أو قياس أسمائه الحسنى أو صفاته العلى أو أفعاله على خلقه، وهذا أصل مطرد في باب الأسماء التوقيفية والصفات الربانية.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير