ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 05 - 2009, 12:43 م]ـ
ومن قوله تعالى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
ففيه جواب عن سؤال محذوف دل عليه السياق اقتضاء، فقد تطلعت أنفسهم رهبة إلى ما بعد قبول الفداء، فلسان حالهم، وما جزاء من عدل عن الفاضل بقتل الأسرى إلى المفضول بقبول الفداء منهم، فجاء الجواب:
امتناع وقوع العذاب فرعا عن وجود الكتاب الذي نكر مئنة من عمومه فهي سنة شرعية سبقت من الله، عز وجل، و: "من": لابتداء الغاية، فهي كبقية السنن الشرعية: إلهية المصدر، ولما كان المقام: مقام تشريع، ناسب أن يذكر متعلقه: اسم: "الله" إذ مقتضى السنة الشرعية: التأله بالتزامها تصديقا بالجنان فذلك حظه منها، وقولا باللسان فذلك، أيضا، حظه منها، وامتثالا بالفعل أو الترك، فذلك حظ الجوارح منها، وتواطؤ القلب واللسان والجوارح مئنة من كمال الإيمان، فيوافق عقد القلب الباطن، وهو الأصل لما بعده، فما سواه فرع عليه استقامة أو اعوجاجا، يوافق ذلك العقد الباطن، عقد اللسان الظاهر، وعقد الجوارح المصدق، فإنه لا بد للدعوى من دليل، ودليل دعوى الإيمان: استقامة الظاهر على مقتضى الشريعة الظاهرة، وفي التنزيل: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
لمسكم: أي أصابكم ففيه الكناية عن الفعل بذكر مبادئه فأول الإصابة: المس.
فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ: تعليل بـ: "في" على وزان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ).
ونكر العذاب إمعانا في التحذير فضلا عن وصفه بالعظمة، فذكره في السياق موطئ لما بعده، إذ المراد بيان وصفه لا مجرد التنبيه على وقوعه، فإن وقوع العذاب لا يكون رادعا إلا إذا اقترن بوصف يزعج النفوس فيحملها على اجتناب أسبابه، فإن من خاف شيئا هجر أسبابه تركا، ومن رجا شيئا باشر أسبابه فعلا، ودعوى اللسان لا تكفي في مقام الابتلاء، فكم من ألسن باشرت القول فلما جاء وقت العمل قعدت الجوارح فخذل الله، عز وجل، صاحبها بعدله، ولو شاء لأقامها على مقتضى دعوتها بفضله، و: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
ومن قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ففيه بث للطمأنينة في نفوسهم بعد ما انتابهم من اضطراب فرعا عما تقدم من ذكر العتاب.
والأمر في: "كلوا" دائر بين:
الإباحة: بقرينة حظر ذلك على الأمم السابقة، والأمر بعد الحظر يفيد الإباحة كما قرر الأصوليون، وعلى القول بأنه يفيد رجوع الشيء إلى ما كان عليه: إباحة أو ندبا أو وجوبا، فهو، أيضا، يفيد الإباحة، إذ الأكل مباح في أصله
والامتنان: على وزان قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
ويرجحه وروده بعد الوعيد بالعذاب، وكونه مما اختصت به هذه الأمة، كما في حديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا وفيه: (وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي)، والاختصاص مظنة الامتنان.
وقد رجح الطاهر بن عاشور، رحمه الله، معنى الامتنان، فقال:
"والأمر في {كلوا} مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا: لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر، وليكون قوله: {حلالاً} حالاً مؤسسّة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة". اهـ
لأن الأمر لو كان للإباحة لصارت الحال: "حلالا" مؤكدة لمعنى الحلية الذي استفيد من الإباحة المتقدمة الذكر، بخلاف ما لو حمل الأمر على الامتنان، فتكون الحال مؤسسة لمعنى لم يتقدم ذكره، وقد تقرر في الأصول أن الأمر إذا دار بين التأسيس والتوكيد فحمله على التأسيس أولى، لإثراء السياق بمعنى جديد.
واتقوا الله: فلا تتعدوا بأكل ما لم يحل لكم، فإن التذكير بحدود الشرع في مواضع التوسع في تناول المباحات يكبح جماح النفس التي جبلت على التعدي، والتعدي مذموم ولو في تناول المباح، إذ الإفراط في تناوله: مظنة الخلل، ففضول المباحات من طعام وشراب ونوم وخلطة من أسباب فساد القلب وذلك أمر يعاني منه معظمنا فقل من يسلم من أحدها، وربما اجتمع فيه أكثر من واحدة، بل ربما اجتمعت فيه كلها، وإلى الله المشتكى.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: تذييل يناسب السياق، إذ الامتنان مظنة غفران الله، عز وجل، عدولهم عن الأولى بقتل الأسرى إلى أخذ الفدية، وهو من جهة أخرى قائم مقام التعليل لما قبله، ولذلك حسن الفصل لشبه كمال الاتصال بين العلة ومعلولها، فيقدر سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء كأن يقال: وما علة ما تقدم من الامتنان بإباحة أكل الغنائم؟، فجاء الجواب: إن الله غفور رحيم قد تجاوز عنكم لما علم من ضعفكم فأباح لكم ما لم يبح لبقية الأمم السابقة، وأظهر الاسم الكريم: "الله" وحقه الإضمار لتقدم ذكره عناية بالشأن، إذ المغفرة والرحمة من الله، عز وجل، لا من غيره، وعظم شأن الصفة يكون فرعا عن عظم شأن الموصوف بها.
والله أعلى وأعلم.
¥