تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تكن فتنة: عظيمة فالتنكير دال على ذلك، وأي فتنة أعظم من موالاة الكفار، ولو في الظاهر، فتمييع الحدود الفاصلة بين الأمم مما يخشاه العقلاء على الهوية الوطنية أو الأممية، فالأمم، وإن كانت على غير طريق الهدى، حريصة على الظهور بما يميزها عن بقية الأمم، فتراها تتوجس من الغزو الثقافي الخارجي، ولو كان في صورة نشاط ترفيهي كالسينما، أو غذائي، كمطاعم الوجبات السريعة، أو حتى في الملبس، فلا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب، كما أثر عن ابن مسعود، رضي الله عنه، بإسناد متكلم فيه، والأمم الضعيفة مولعة بتقليد الأمم القوية كما ذكر ذلك ابن خلدون، رحمه الله، وانظر إلى توجس فرنسا ذات الشخصية القومية المتميزة، من غزو السينما الأمريكية ومطاعم الوجبات السريعة الأمريكية والمنتجات الأمريكية عموما فهي تخشى على ثقافتها، وتخشى على اقتصادها، مع كون الغزو آت من دولة تشاطرها الملة، وإن خالفتها النحلة، ولذلك تذمر كثير من الفرنسيين، من تبعية بلادهم لأمريكا، وهو أمر أخذ في الازدياد مذ وصل الرئيس الفرنسي ذو الأصول اليهودية: "نيكولا ساركوزي" إلى سدة الحكم، فتأثره بالإدارة الأمريكية المنصرمة، وهي من التطرف بما قد علم، تأثره بها أمر ظاهر جلب عليه كثيرا من انتقادات شعب يعتز بقوميته، وأهل الإسلام أولى بتلك الأنفة، فهم أولى الناس بالتميز لا عتصرية، وإنما صيانة لأركان الشخصية المسلمة من سرقة الطباع بانحلال عرى الاستقلالية والتميز فرعا عن: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، والتسمية مظنة التميز، وإن فرطت الأمة المسلمة في ذلك، فإن بقية الأمم لا تفرط في تميزها، وإن كانت على الباطل، فذلك أمر جبلت عليه النفوس.

وَفَسَادٌ كَبِيرٌ: عطف لازم على ملزومه، فلازم الفتنة الفساد، والفساد: تغير يعتري الصحة، وهو عند من يقول بالمجاز: حقيقة في الأعيان مجاز في المعاني، وموالاة الكفار فساد في كليهما، فهو فساد لمعاني التوحيد والإخلاص والولاء لأولياء الله والبراء من أعدائهم ............. إلخ من عقود القلب المعنوية، وهو فساد لأبدان المكلفين بحملها على طريقة من فسدت فطرهم، وبتعريضها للعذاب إن هي والت أعداء الله، عز وجل، فذلك مظنة الخسران في دار الجزاء، وانظر إلى من سار على طريقتهم تجده في فساد حال في قوله وعمله وبدنه، وإن بدا في أكمل وأنظر صورة، إذ أولئك قوم قد حادوا عن الفطرة الأولى: فطرة التوحيد فاستتبع ذلك نكوص عن مقتضيات تلك الفطرة في القلوب والأبدان فوقعوا في فساد عريض هو مآل من سار على طريقتهم، وإن لم يشاركهم فساد فطرة التوحيد، فالنهي عن مشابهتهم، إنما هو صيانة لجانب التوحيد وسد لذرائع الخدش فيه ولو بالإعجاب بطريقة الكفار الظاهرة فيما اختصوا به، وذلك قيد من الأهمية بمكان، فالاشتراك فيما لا اختصاص فيه من أمور المأكل والمشرب والملبس المباحة لا يدخل في حد التشبه المذموم الذي يولد ولاء خفيا على التفصيل المتقدم، وتحرير ذلك من أشرف ما عمرت به الأوقات، إذ به تتميز الأمة المسلمة في كل علومها وأعمالها عن بقية الأمم.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 06 - 2009, 05:07 م]ـ

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: إطناب بذكر وجهي القسمة الثنائية لأهل الإيمان أصحاب الولاية الكاملة: المهاجرين والأنصار، وذكر جزائهم فـ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ: نكرت تعظيما وقدم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا مع ما للام: "لهم" من دلالة الاختصاص فضلا وامتنانا من الله عز وجل. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: فهو من باب عطف المسبب على سببه، فالمغفرة: سبب الرزق الكريم في جنان الرحمن، ولقائل أن يقول: بل العطف من عطف الخاص على العام، فالمغفرة نوع تندرج تحته أفراد من المعاني والمحسوسات، والرزق الكريم منه أيضا: المعنوي: من العلم بالله، عز وجل، برؤيته في دار السلام، وتلك رأس النعم معنوية كانت أو حسية، ومنه الحسي المتبادر إلى الذهن من المطعم والمشرب والملبس والمنكح ........... إلخ من رزق الأبدان، فالجنة دار قد كفل لسكانها أرفع مراتب الرزق معنويا كان أو ماديا مع خلوصه مما ينغصه وذلك مما لا طمع فيه في دار الفناء، فالنعم محفوفة بالمنغصات ولو خوف زوالها أو الزوال عنها.

وذكر الرزق: موطئ لما بعده من وصف الكرامة إذ هو المقصود بالذكر أصالة، وفي وصفه بالكرم تعريض برزق الدنيا، وإن كان نعيما يستوجب شكر المنعم، جل وعلا، ولكنه في مقابل رزق الجنان: أسماء ومبان، فلا يجمعهما إلا الاسم والمعنى الكلي، بخلاف الحقيقة الخارجية فليس سواء رزق الفانية الذي يسرع إليه الفساد والعطب والتغير بحلول الأجواف التي تخرجه عن طبيعته فيستفيد منه البدن جزءا ويطرد جزءا فليست لذته كاملة ولا فائدته خالصة، ليس سواء رزق هكذا وصفه ورزق الآخرة الباقي الخالص اللذة والفائدة وبنقص الأولى عرف كمال الآخرة وبضدها تتميز الأشياء.

وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ: فقد حققوا وصف المهاجرين، فبهجرتهم انتفى عنهم ما كان مانعا من تمام ولايتهم، فأولئك: إشارة بالبعيد تنويها بشأنهم: منكم فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم.

وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: نسخ لتوارث المهاجرين والأنصار، فالأرحام أولى بالاعتبار في الميراث، وإنما شرع توارث الفريقين ابتداء تقوية لأواصر المحبة والولاء بينهما، فالميراث من أعظم الوشائج، ثم صارت المصلحة بعد ذلك في إرجاع الحكم الشرعي إلى ما كان عليه، فنسخ توارث ولاية النصرة والمحبة وأحكم توارث ولاية الدم، وذيلت الآية بإثبات وصف العلم لله، عز وجل، فـ: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). فعلم المصلحة في توارث الفريقين ابتداء فشرعه، وعلم المصلحة في نسخ ذلك بزوال علته فنسخه، فهو العليم، سبحانه بما يصلح شؤون عباده في معادهم ومعاشهم.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير