تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 06 - 2009, 05:22 ص]ـ

ومن صور التولي والنكوص على الأعقاب:

قصة موسى مع قومه الذي نكصوا عن قتال الجبارين فرعا عن استمرائهم الذلة والمسكنة في قصور فرعون عبيدا وإماء مسخرين.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: تمهيد يناسب ما هم بصدده من التكليف الشرعي بالقتال، فناسب أن يذكرهم بنعم الله، عز وجل، متعلق ربوبيته الخاصة: ربوبية الإنعام والاصطفاء، فقد اصطفاهم بأن جعل جنس النبوة فيهم، وجعل منهم الملوك، فجمع لهم: القيادة الدينية والقيادة السياسية، وذلك مظنة الهدى بعلوم الأنبياء والتمكين بسياسات الملوك، وامتثال الأمر الإلهي بقتال أو نحوه إنما يكون فرعا عن تصور الربوبية تصورا صحيحا بتأمل أسماء الرب، وجل وعلا، وصفاته، وأفعاله، ففيها يظهر كمال ربوبيته، وذلك مظنة الاطمئنان لحكمه الشرعي إذ قد صدر عن رب كامل حكيم في أفعاله حالا ومآلا، فلا يخشى العاقل من امتثال أمر رب هذا وصفه من الكمال بخلاف أمر البشر، فطاعته إن لم تكن فرعا عن طاعة الرب، جل وعلا، مظنة الخسران، ففي التنزيل: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، إذ لا يكون سلطان التشريع إلا لمن بيده سلطان التقدير، فهو الملِك المتصرف بالأمر والنهي فرعا عن كونه المالك المتصرف بالتدبير بمقتضى أحكام ربوبيته النافذة، بل ذلك مظنة الخسران حتى بأقيسة العقل التي لا تعرف إلا لغة الأرقام، فطاعة من يتذبذب في رأيه وحكمه تبعا لطروء النوازل فما استقبحه بالأمس بستحسنه اليوم، وما سنه بالأمس بيطله اليوم .......... إلخ من صور التذبذب، طاعة من هذا حاله مظنة التذبذب، فالعقل الناقص الذي يعتريه ما يعتريه من الجهل والغفلة ....... إلخ من العوارض البشرية لا ينتج تصورا وحكما كاملا، فتراه يفتقر إلى التعديل والتبديل بتوالي الأحداث، فأين ذلك من اتباع الشرع المعصوم الذي لا يتبدل إذ له من السعة ما يستوعب آحاد النوازل فرعا عن استيعابه أنواعها بقواعده الكلية المجملة، فمناطاته قد خرجت ومقاصده قد حررت، وإنما يقوم المجتهد أو الفقيه بإعمال تلك القواعد وتحقيق تلك المناطات ومراعاة تلك المقاصد في النازلة فيستنبط لها من الأحكام ما يلائمها وفق أصول ثابتة مطردة لا تناقض فيها ولا تذبذب، بخلاف أصول أهل التشريع الوضعي الذين ضاهوا بها التشريع الإلهي، فأنتجت عقولهم تلك المسوخ التشريعية التي تطفح بها مواد الدساتير الأرضية، فكيف يسوى بين الطرفين بل يغلب الطرف الخاسر فيصير هو المطرد في عالم اليوم: عالم الديمقراطية التي هي في حقيقتها ديكتاتورية الجماعة التي نصبت نفسها إلها يشرع، فاستبدلت عبادة بنات أفكارها الكاسدة بعبادة بنات أفكار الكنيسة البالية، فمن تطرف في تأليه الفرد إلى تطرف في تأليه الجماعة وكلا الإلهين فقير إلى ما يقيم أوده من أسباب الحياة، فكيف يكون حكمه عادلا وشرعه كاملا، وهو فقير في نفسه فقرا ذاتيا، والفقر مظنة الحيف والظلم إذ الفقير يتطلع دوما إلى سد فاقته، فيقع في قوله وفعله ما يقع من التجاوزات، وتأمل عظم الثغرات في الدساتير الأرضية كما وكيفا، فهي دليل دامغ على ذلك الفقر، إذ هي نتاج عقول ذات أهواء تفتقر إلى تلك الأهواء وإن كان فيها عطبها، فتزين ما استحسنته ولو كان قبيحا لحاجتها إلى إشباع نهمتها منه، ولكل شهوته، ولكل هواه الذي يبغي تحصيله بخلاف الباري، عز وجل، الغني عن كل حاجة، المنزه عن كل نقص أو فاقة أو شهوة، فحكمه لا يصدر إلا عن كمال استغنائه عن الأسباب، إذ هو خالقها ومجريها فكيف يفتقر إليها؟! وحكم غيره إنما يصدر عن كمال افتقاره إلى الأسباب التي تقوم بها حياته وشتان الحكمان!.

وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ: عموم بعد خصوص نعمتي: النبوة: أعظم النعم عند التحقيق، فبها صلاح الدين والدنيا، وعمار الآجلة محط الرحال، والعاجلة دار الانتقال، والملك: فبه تصلح أمور الرعية بإقامة الأحكام، وإدارة شئون الجماعة. فقد أوتوا من النعم عموما بعد تينك النعمتين خصوصا ما لم يؤته أحد من العالمين، و: "أل" في: "العالمين": عهدية تشير إلى عالمي زمانهم دون من سواهم، فقد أعطيت أمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعدهم من الخصائص ما لم تعطه أمة سواها فضلا من الله، عز وجل، واصطفاء.

يَا قَوْمِ: تكرار النداء بـ: "قوم" تأليفا لهم واستمالة.

ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: فذلك أدعى إلى امتثال الأمر إذ قد كتبها الله، عز وجل، لكم، إما كونا، وإما شرعا بحصول المشروط إذا امتثل المخاطب مقتضى الشرط من بذل السبب الشرعي بجهاد سكانها من الجبارين، فالحكم دائر مع علته الشرعية وجودا وعدما، فمتى وجدت العلة بامتثال أمر الشارع، عز وجل، وجد الحكم بالنصرة والتأييد على العدو وتملك أرضه، إذ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأولى الناس بوراثتها من التزموا أمره الشرعي فاستحقوا عطاءه الرباني بالظهور على العدو ووراثة أرضه وماله.

وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ: وعيد بعد الوعد اكتمل به شقا التكليف، فهو أمر يرغب في امتثاله بالوعد، ونهي ينفر عن ارتكاب منهيه بالوعيد.

فعاقبة التولي:

فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ: فالفاء سببية تفريعية عما تقدم من النكوص والارتداد، إذ عاقبة السيئة سيئة تتبعها عدلا من الباري، عز وجل، وهو ما جرى لهم على ما يأتي بيانه إن شاء الله، فقد لحقتهم تبعة العقاب الكوني بالتيه فرعا عن مخالفتهم الأمر الشرعي بدخول الأرض المقدسة، وسنن الله، عز وجل، في الثواب والعقاب: مطردة لا تفرق بين شريف ووضيع، بل تلحق العقوبة أهل العصيان ولو كانوا برفقة الأنبياء والمرسلين.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير