القلب، فيظهر أثر ذلك على الجوارح ولو بإظهار الامتعاض من أهل الكفر والفسوق، فإن كل إناء بما فيه ينضح، فإناء القلب الباطن ينضح على الظاهر إقبالا على أهل الإيمان ونفورا من أهل الكفران.
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ: تحريما كونيا فرعا عن مخالفتهم الأمر الإلهي، فالعقوبة النازلة بالقدر الكوني النافذ، فرع على مخالفة القدر الشرعي الآمر الناهي، فلما عصوا استحقوا التيه، فعوقبوا بالحرمان من دخول الأرض المقدسة التي كتبت لهم، جزاء وفاقا، إذ النكوص عن الطاعة سبب في الحرمان، كما أن مباشرة المعصية سبب فيه، ومن أعظم صور الحرمان: الحرمان من الطاعة، فلا يوفق العاصي إلى طاعة، بل ينتقل من معصية إلى أخرى حتى يحدث توبة، وعلى النقيض: يوفق الطائع إلى الطاعة، فينتقل من طاعة إلى طاعة، والتوفيق والخذلان من صور الربوبية القاهرة، إذ لا يوفق المطيع إلا بفضل الله، ولا يخذل العاصي إلا بعدله، فمن يسر للأول أسباب الطاعة، ويسر للثاني أسباب المعصية هو الرب المجري للأسباب الكونية وفق قدرته النافذة وحكمته البالغة.
وتصدير التحريم بالتوكيد في مقابل توكيدهم النكول عن امتثال الأمر بدخول الأرض المقدسة.
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ: فيموت جيل جبان وينشأ جيل يستحق النصر، فتجري على الأول سنة الاستبدال، مصداق قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، وتحري على الثاني: سنة الاصطفاء، و: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ).
وفي العصر الحاضر استبدلت أجيال ولا تزال من لدن سقطت خلافة آل عثمان الجامعة فتشرذم المسلمون دويلات متنافرة، ومن لدن سقط بيت المقدس، والسنة الكونية مطردة لا تعرف المجاملة لتستثني أمما بمجرد حمل الهويات الإسلامية بلا انقياد للتكليفات الشرعية.
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ:
نهي إرشاد وتسلية فلا تأس عليهم، وكرر وصفهم بالفسق توكيدا على علة ذمهم التي ذكرها موسى عليه السلام في دعائه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 06 - 2009, 06:15 ص]ـ
ومن صور النكوص الأخرى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى:
تكرار للتعجب من حالهم استنكارا وتوبيخا، على القول بتعلقه بما تقدم من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ). كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير رحمه الله.
و: "من" الأولى: بيانية جنسية، إذ كان ذلك مراد جمعهم لا بعضهم.
و: "من" الثانية: لابتداء الغاية، فاستعمل اللفظ الواحد استعمال المشترك الذي دل السياق على المراد من معانيه فزال إجمال اشتراكه، والسياق، كما تقدم في أكثر من مناسبة، أصل في معرفة مراد المتكلم.
إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: قيد للتعجب والاستنكار المتقدم.
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: بعثا شرعيا على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وفي السياق إيجاز بالحذف، إذ حذف الشرط الذي جزم فيه جواب الطلب: "نقاتل"، وفيه تجوز في السياق وصولا إلى محط الفائدة، فالقتال مطلب الجمهور، على مشقته التي لا يعرفها إلا من عالجه، فما أيسر الكلام، وأصعب الفعل، إذ تبلى السرائر والهمم في ساحات الوغى، وكثير من شجعان السلم ينكلون في أوقات الحرب، إذ تنفسخ همم كثير عند معاينة الموت، بل ذلك حال أغلب الناس، بل قد تنفسخ الهمم فيما دون ذلك من ابتلاءات كونية بمرض أو حبس أو نحوه، إذ القلوب بيد مقلبها فهو الذي يثبت من شاء فضلا، ويزيغ من شاء عدلا، فله من المكر وصف الكمال، إذ به يستخرج مكنون القلوب في أوقات الشدة، فكثير قد انطوى باطنه على ما يخالف ظاهره، فجاء الابتلاء كاشفا، ولأصحاب الدعاوى فاضحا، وهو ما وقع بالفعل كما يأتي من سياق القصة، ومناط الأمر: ربوبية قاهرة تصرف القلوب، وألوهية شارعة، فلكل حال حكم، فحال السلم غير حال الحرب، والفقيه من يسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه ودنياه، فيستعين بالسبب الشرعي على دفع
¥