تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البلاء ابتداء، فإذا ما وقع بمقتضى الإرادة الكونية النافذة، استعان بالسبب الشرعي على رفعه، كجهاد عدو أو درء شبهة ......... إلخ، فإن لم يمكنه ذلك، فله في عبودية الصبر عوض، فواجبه الشرعي إزاء ما عجز عن رده من القضاء الكوني: أن يصبر محتسبا، ولا يكون ذلك بعد بذل ما يقدر عليه من أسباب، والتوكل والصبر، عند التحقيق، زاد المبتلى سواء باشر السبب في رفع البلاء بقتال أو نحوه، فإن ذلك يستلزم توكلا وصبرا على مشقة معالجة الأسباب، وفي التنزيل: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، أو استنفد الأسباب فالتوكل والصبر في حقه آكد، والترابط الوثيق بين ربوبية الابتلاء في مقابل عبودية الصبر والاحتساب مما يضبط هذا الباب الذي فرط فيه فريق فقعدوا عن نصرة الدين ابتداء خشية الابتلاء وهو واقع لا محالة فإن لم يكن في سبيل الله ففي سبيل غيره حتى وصل الأمر إلى تعلق الهمم وتشوف النفوس في بعض بلاد المسلمين إلى رغيف خبز تأنف البهائم من أكله، فلا يتجاوز طموح كثير من المسلمين: قضاء شهوة بطنه بالطعام والشراب وقضاء شهوة فرجه بالنكاح، وأفرط فيه فريق آخر فتمنوا الابتلاء وليسوا له بأهل، إذ لما تعد النفوس لتحمله بعد، فلا يعدو الأمر مجرد عاطفة سريعة الاشتعال سريعة الانطفاء، فما يأتي جملة يذهب جملة، والكلام في حال السلامة يسير، وامتثاله حال الابتلاء عسير، فليس أحد وكل إلى نفسه إلا خذل، ولذلك كان سؤال السلامة، كما تقدم، مئنة من فقه السائل، ولنا في ذلك أصل جليل ترد إليه فروع هذه المسألة: أصل: "أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ". فاسألوا الله العافية ابتداء فذلك شرع السلم، فإذا لقيتم العدو فاصبروا فذلك شرع الحرب، فلكل قدر كوني من سلم أو حرب ما يقابله من التكليف الشرعي بدعاء أو صبر، وتلازم الربوبية والألوهية، كما تقدم، أمر مطرد في كل أحوال المكلفين، فمن الرب: الابتلاء إظهارا لقدرته وحكمته، ومن العبد: الصبر والامتثال إظهارا لعبوديته.

وقد كان نبيهم عليما بدخائل النفوس فاستفهم محذرا:

قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا: والكتابة في هذا السياق شرعية بدليل مخالفة أكثرهم لمقتضاها لما جد الجد، ولو كانت كونية ما تخلف أحد منهم عن مقتضاها.

واستفهم عن حال النفي: "ألا تقاتلوا" ولم يستفهم عن حال الإثبات، فقد ترجح عنده نكوصهم عن القتال إذا فرض عليهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وذلك جار على ما تقدم من إفراط في الحماس لفظا فإذا جاء التكليف بالفعل خفتت الأصوات وانحلت العزمات.

قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا: استنكار لسؤال النبي، مع وجاهته، علته: "وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا"، على تقدير محذوف: وأبعدنا عن أبنائنا، أو يكون الإخراج من الأبناء بتسلط العامل في "ديارنا" على: "أبنائنا": آكد في البيان، فالإخراج فيه معنى القهر والظلم وذلك مما يهيج النفوس ويلهب الهمم، فلا يرفع الظلم إلا بحد السيف، وما سلب بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ومن غلب على أرضه وولده ضعف تعلقه بالحياة فصار القتال عليه أهون، كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، ولذلك اشترط يوشع بن نون، عليه السلام، على أتباعه التجرد من علائق الدنيا قبل دخول الأرض المقدسة فقال: (لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا).

ومع كل تلك الدعاوى العريضة:

لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ: فصار فرضا شرعيا وتكليفا حتميا.

تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ: فوقع ما كان يخشاه نبيهم، بانفساخ هممهم وتثاقل أبدانهم، إلا قليلا منهم، أخلصوا النية لله، عز وجل، بتصديق الفعل القولَ، فثبت الرب، جل وعلا، جنانهم بمقتضى إرادته الكونية فرعا عن امتثالهم مقتضى إرادته الشرعية بفرض القتال. والتلازم بين الأمرين قد سبقت الإشارة إليه في أكثر من موضع فهو أصل يفزع إليه في كل تكليف شرعي، فلا تجتمع الإرادتان: الكونية النافذة والشرعية الآمرة إلا في المؤمن الذي استعان بالرب القادر على امتثال أمر الإله الشارع.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: تذييل يناسب السياق فيه من التهديد للقاعدين ما يحملهم على امتثال الأمر فقد علم، عز وجل، أزلا من سيقعد ومن سيخرج، وعلم علما ثانيا يتعلق به الثواب والعقاب من قعد ومن خرج لما صار الغيب شهادة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير