تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بخلاف الصورة الأولى فهي إلى المعنى أقرب وبه أليق.

قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ: ابتلاء شرعيا، نسبه إلى الله، عز وجل، ولعل في نسبته إلى لفظ الجلالة: "الله"، على القول باشتقاقه لغة لا شرعا من التأله بمعنى التعبد، لعل في نسبته إلى اسم يتضمن معنى التعبد ما يؤكد كون الابتلاء شرعيا لتمحيص القلوب، فنسب إلى الإله الشارع دون اسم الرب الذي يتضمن معنى السيادة وتلك بالابتلاء الكوني أليق، وليس الابتلاء هنا كونيا، إذ لو كان كذلك لوقع لا محالة، ولكنه تخلف في حق معظم أفراد الجيش الذين رسبوا في أول اختبار شرعي جريا على سنة: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فالغالب على العباد: مخالفة الأمر الشرعي دون الأمر الكوني الذي يجري على وجه الحتم والإلزام على كل العباد مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم.

وقد أكد كلامه بتصدير الجملة بـ: "إن"، وذكر الابتلاء مجملا، فتشوفت النفوس إلى البيان، فعقب به مقرونا بالفاء الدالة على التعقيب، فليس بين الإجمال والبيان في كلامه فسحة، إذ قد قامت الحاجة إلى بيان الحكم، لقرب زمان الابتلاء، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي: "من" الأولى لابتداء الغاية، فابتداء غاية فعل الشرب تكون من النهر فيكون الشرط نصا فيمن كرع الماء بفيه كناية عن نهمه وقلة صبره على العطش، فذلك المتوعد بجواب الشرط دون من استثناه ممن اغترف غرفة بيده دفعا للضرر، فيكون فعله من باب الضرورة التي يرخص فيها بقدر ما ترتفع به، فالضرورات تقدر بقدرها.

و: "من" الثانية: "اتصالية" كما اصطلح بعض النحاة على تسميتها بذلك، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فاستعار انقطاع الاتصال الحسي بين الشارب والقائد لانقطاع الاتصال المعنوي بينهما، وقد يقال بأن كلا الأمرين مراد، بل هما متلازمين، إذ انقطاع الوصلة المعنوية بينهما سبب في انقطاع الوصلة الحسية بفصل العصاة الذين لم يمتثلوا الأمر عن بقية الجيش، لئلا يناله من شؤم معصيتهم ما يكون سببا في هزيمته، وهذا أصل في هجر العصاة تأديبا ودفعا لضررهم، فلا أضر على الجماعة من عصاتها، فهم سبب في استنزال العذاب ومحق البركة، مصداق قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ)، فكان فعل طالوت عين الحكمة الشرعية، وفي مقابل الترهيب بنفي العصاة:

جاء الترغيب على سبيل المقابلة بين شطري القسمة العقلية: من عصى فشرب فانتفت صلته بالقائد وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي: فصلته بالقائد باقية إذ قد اجتاز أول ابتلاء شرعي مُمَحِّص بنجاح، واستثنى مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ: دفعا لضرورته كما تقدم.

فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ: الفاء فصيحة على تقدير: فلم يمتثلوا الأمر فشربوا منه ............. ، واستثنى القلة المؤمنة، وقرئ برفع "قليل"، إذ في معنى إقدامهم على الشرب انتفاء امتثالهم الأمر بتركه لزوما، فكأن الاستثناء ورد على كلام تام منفي، على تقدير فلم يمتثلوا الأمر، فجاز فيه الوجهان: النصب على الاستثناء والرفع على البدلية من الضمير في: "يمتثلوا"، فآل المعنى إلى: فلم يمتثلوا الأمر إلا قليلٌ.

فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ: تعريض بمن لم يجاوز بإثبات وصف الإيمان لمن جاوز فهو يفيد بمفهومه نفيه عمن لم يجاوز، وإن لم يكفر بذلك، ولكنه لم يحقق الإيمان الواجب لتجاوز هذا الابتلاء فلم يصر أهلا لتلك الكرامة: كرامة التثبيت في أوقات الشدة، فتلك لا تكون إلا لمن شاء الله، عز وجل، له الثبات كونا، فرعا عن امتثاله الأمر ديانة، فلا يحظى بعطايا الربوبية، ومنها تثبيت الجنان وتصريفه على مقتضى الإيمان إلا من حقق تمام الألوهية.

قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ: لما لقيهم من نصب ومشقة.

قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ: أي يوقنون، فالظن هنا بمعنى اليقين لدلالة السياق على كونهم أرفع طبقات الجيش منزلة، وأصلبهم عودا، فرعا عن كمال إيمانهم. و: "أن" وما دخلت عليه قد سدت مسد مفعولي ظن. أو المفعول الأول لها والمفعول الثاني محذوف على تقدير: قال الذين يظنون ملاقاة الله كائنةً، وهذا اختيار الأخفش رحمه الله، وعلى كلا القولين يكون الإتيان بالجملة المصدرة بـ: "أن" المصدرية مع ما لها من دلالة توكيدية بأصل الوضع أبلغ في بيان يقينهم من الإتيان بالمصدر الصريح.

أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ: الإضافة للتخفيف.

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ: طباق بين القلة والكثرة في معرض بيان القدرة الإلهية، والإذن هنا، كوني، بخلاف الإذن في نحو قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، أي: ما لم يشرعه الله عز وجل. وذلك الإذن الكوني فرع عن امتثال الأمر الشرعي كما تقدم في أكثر من موضع.

وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: إظهار في موضع الإضمار، لبيان كمال العناية بهم بورود لفظ الجلالة في معرض معيته الخاصة لهم: معية النصرة والتأييد، وقد علق الحكم على الوصف المشتق من الصفة المشبهة: "الصابرين" التي ذيلت بها الآية فهي مما يلائم ما تقدمها من أحداث جسام تتطلب صبرا على البلاء وثباتا عند اللقاء.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير