وهي آية على صحة رسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ الإخبار بذلك الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي مرسل، أو عالم قد باشر علوم الأولين، كأحبار يهود وقساوسة النصارى ممن لهم بالنبوات الأولى معرفة، الإخبار بذلك من قبل من لا علم سابق له به، بل لا علم له بالقراءة فهو أمي، إمعانا في تكريمه إذ علمه ربه، عز وجل، فلم يجلس إلى معلم من البشر، وإمعانا في إقامة الحجة على مخالفه بقطع كل أسباب العلم الكسبي عنه، فلا قراءة ولا كتابة ولا مخالطة لعلماء أهل الكتاب ليتلقى عنهم مشافهة، فلم يبق إلا القطع بأن علمه وهبي فرعا عن نبوة معصومة لا يتطرق الخطأ إلى خبرها، ولا البطلان إلى حكمها، فلا تنال النبوة باكتساب أو اجتهاد وإنما هي فضل وهب وامتنان من الرب الكريم المنان.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح":
"وقد أتاهم، (أي: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، بجلية ما في الصحف الأولى كالتوراة والإنجيل مع علمهم بأنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبرهم بالغيوب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي وهم يعلمون أنه لم يعلم ذلك بخبر أحد من الأنبياء تبين لهم أنه نبي وتبين ذلك لسائر الأمم فإنه إذا كان قومه المعادون وغير المعادين له مقرين بأنه لم يجتمع بأحد يعلمه ذلك صار هذا منقولا بالتواتر وكان مما أقر به مخالفوه مع حرصهم على الطعن لو أمكن.
فهذه الأخبار بالغيوب المتقدمة قامت بها الحجة على قومه وعلى جميع من بلغه خبر ذلك وقد أخبر بالغيوب المستقبلة وهذه تقوم بها الحجة على من عرف تصديق ذلك الخبر كما قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ}.
ثم قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}.
فأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك في المستقبل وكان كما أخبر وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
فأخبر أنه لا يقدر الإنس والجن إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن وهذا الخبر قد مضى له أكثر من سبعمائة سنة، (في زمن المؤلف)، ولم يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن .......... وقد أيده تأييدا لا يؤيد به إلا الأنبياء بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به كما أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم". اهـ بتصرف.
والتقييد بالحال في قوله: (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ): لا مفهوم له إذ هو من الوصف الكاشف، فلا يكون من الوحي ما يتلى بالباطل، وإنما هو من باب الإطناب في وصف تلك الآيات بأوصاف الكمال.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ: تذييل يلائم السياق بتوكيد الرسالة فرعا عن صحة أخبارها، ومنها ما تقدم من خبر طالوت وجالوت.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 07 - 2009, 08:05 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ):
¥