تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ: عالية رفيعة، فالتنكير للتعظيم، وقال بعض أهل العلم إن المراد هنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنما أبهم ذكره تفخيما لأمره.

وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ: فلفظ الإيتاء أبلغ في بيان المنة الربانية على المسيح عليه السلام، إذ هو مما لا يقبل المطاوعة، وما لا يقبل المطاوعة كما قرر اللغويون أقوى دلالة على وقوع الفعل مما يقبل المطاوعة، فما يقبل من قبيل: كسرته يحتمل وقوع الفعل فيقال: كسرته فانكسر، أو عدم وقوعه فيقال: كسرته فما انكسر، بخلاف الإيتاء فهو واقع لا محالة، إذ النبوة منحة ربانية لا تقبل الرد، فمن اصطفاه الله، عز وجل، لحمل رسالته وتبليغ كلماته الشرعيات أخبارا وأحكاما لا يملك الاستقالة إذ الأمر على جهة اللزوم لا التخيير، وفي التنزيل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ)، والأصل في الأمر الوجوب كما قرر الأصوليون، وذلك آكد واجب يتصور في حق البشر بعد إخلاص العبودية لله عز وجل.

وجاء التفصيل في مقام الامتنان على عيسى عليه السلام لدحض شبه الغلاة والجفاة فيه، فأما الجفاة من يهود فبالنص على تأييده بالروح الأمين، عليه السلام، وهو الملك الموكل بالوحي، ففيه النص على نبوته التي أنكروها، فليس تخصيصه بالذكر في هذا المقام بناف وقوع التأييد لغيره من الرسل بالروح الأمين عليه السلام، إذ السياق غير حاصر، وإنما هو من باب إثبات الحكم لفرد من العام فلا يلزم منه نفيه عن بقية الأفراد. وفي التنزيل: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). فضلا عن كونه عليه السلام عدوهم اللدود فذكره في مقام التأييد تبكيت لهم إذ أظهروا العداوة لمن اختصه الله، عز وجل، بأشرف الوظائف الملكية، فهو النازل بأشرف الكلمات على أشرف أفراد النوع الإنساني الذين اصطفاهم الله، عز وجل، لأشرف وظيفة بشرية.

وأما الغلاة فبالنص على أن ما جاء به المسيح عليه السلام من البينات لم يكن إلا محض عطية ربانية له، فلا استقلال له بتكوين الطير أو إبراء الأكمه والأبرص أو إحياء الموتى أو الإخبار بالمغيبات، وفي التنزيل: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فرد الأمر إلى الإذن التكويني النافذ، وإنما باشر عليه السلام السبب فصور الطين على هيئة الطير ونفخ فيه كما نفخ الروح الأمين في جيب درع أمه البتول عليها السلام، فتحققت صورة السبب، فسرت الحياة إلى الطير بإذن ربه.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ: إذ مجيئها مظنة ارتفاع الخلاف، إذ

النقل قاطع لمادة الخلاف، ولكن الاختلاف في تأويله بالعقل أفسد الأديان، وصير المحكم متشابها، فلكل قياس عقله، فلم ترد المتشابهات إلى المحكمات ليرتفع الخلاف، بل عزل النص عن ولايته، وولي العقل مع عدم كفايته، ولاية المتغلب بسيف التأويل، فتصدر من حقه التأخير، ووسد أمر النبوات لغير أهله، والقتال في ساحات الوغى فرع عن المعركة الأولى: معركة إبليس: أول من قدم العقل على النقل فرجح قياس عقله على أمر ربه، فاستحق الرد فوسوس لذرية آدم بما وقع فيه، فلا تجد معارك الأبدان إلا فرعا عن معارك الأديان، إذ التصور سابق الحكم، ولا تجد معارك الأديان إلا فرعا عن تقديم الآراء والأذواق المضطربة على أخبار النبوات المطردة. فكل من استحسن مقالة، ولو كانت عين الباطل تكلف لها من التأويلات ما يرد به محكم الأخبار، وكلما ازداد بعد مقالته عن دائرة الحق زاد بطلان تأويله حتى يصير في بعض الأحيان لعبا أو جنونا يستحي من له أدنى مسكة من عقل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير