تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وذلك أمر يعم صورة السبب ويتعداه إلى بقية صور إزهاق الروح، أو ما دونها من العقوبات البدنية من قطع وضرب وحبس ....... إلخ، فالقول بعمومه أولى من تخصيصه بعين سبب النزول إذ لا دلالة في اللفظ على اختصاصه بحمزة، رضي الله عنه، أو اختصاصه بنوعه، بقصر العموم على صورة السبب وهي: التمثيل بقتلى المعارك، فالأولى حمل اللفظ على عمومه اللفظي لئلا تهدر دلالة عمومه على الأفراد التي تندرج تحته، وهذا أصل في النظر في نصوص الوحي، فالأصل فيها العموم سواء أكان مطلقا أم واردا على سبب، فلا يصار إلى التخصيص إلا إذا دلت القرينة المعتبرة على ذلك.

واختار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وهو ممن له عناية كبيرة بعلم المناسبات، فكثيرا ما يشير إلى مناسبة الآية لما قبلها، ومناسبة السورة لما قبلها في بيان الوحدة الموضوعية للكتاب العزيز بأكمله، ووحدة السورة، بل الآية الواحدة تلمس فيها وحدة بين أولها وآخرها فيكون التذييل لفظيا كان أو معنويا ملائما للتصدير لا سيما في الآيات التي ذيلت بأوصاف الكمال الربانية، فتكون الآية مذيلة بصفات الجمال في سياق الوعد كما في قوله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، مذيلة بصفات الجلال في مقام الوعيد، كما في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

اختار، رحمه الله، القول بأنها مما نزل بمكة، إذ السياق قبلها سياق دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان ذلك واجب الوقت في الفترة المكية، ولما كانت الدعوة مظنة تعرض صاحبها لصنوف من الأذى، وإن كان يريد الخير للمدعو، فتلك سنة كونية جارية، أمر بالصبر في الآية التالية، فإن كان معاقبا لا محالة فلا يتعد في استيفاء حقه.

وفي السياق مشاكلة بين: "عَاقَبْتُمْ"، و: "فَعَاقِبُوا" على حد قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، وقد يقال بأنها على حقيقتها من جهة أن قتال المشركين نوع عقوبة لهم على إعراضهم عن الدين وتكذيبهم بالوحي، وقتالهم للمؤمنين نوع عقوبة منهم للمؤمنين لما يظنونه جرما من تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم، كما أشار إلى طرف من ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهذا أولى من حمل الكلام على المشاكلة، إذ هي خلاف الأصل، فالقول بوقوعها في الألفاظ لا أثر له، وإنما يظهر أثر ذلك في المعنى، إذ يحمل اللفظ على غير ما جرى به عرف اللسان، فتحمل العقوبة على معنيين: العقوبة المعهودة، والمعاملة على تضمين فعل: "عاقبتم" معنى الفعل: "عاملتم"، وذلك مما توصل به أهل التأويل في بعض المواضع إلى تأويل صفات الباري، عز وجل، ففي نحو قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، المشاكلة اللفظية لا أثر لها، وإنما ظهر الأثر بتأويل: "نفسك" بـ: غيرك، أو: عندك ........ إلخ، فتوصلوا بذلك إلى تأويل صفة النفس الثابتة لله، عز وجل، بنص التنزيل، على الوجه اللائق بجلاله، توصلوا بذلك إلى تأويلها بدعوى المشاكلة اللفظية التي تصير اللفظ المبين: مجملا، بحمله على معنيين متباينين، خلاف الأصل، فتصير دلالته: دلالة المشترك اللفظي المجمل على أحد معنييه، بعد أن كانت دلالته على معناه بينة لا إشكال فيها.

وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ: وهو مرجح لمن قال بمكية الآية فالأمر بالصبر إنما كان في الفترة المكية، إذ لا قوة للمسلمين آنذاك، وهذا أمر جار على كل أزمنة الضعف، فيكون الصبر خيرا من باب درء المفسدة الكبرى بتحمل المفسدة الصغرى، فالحكم منسوء لا منسوخ، كما تقرر في موضع سابق في معرض بيان تدرج الوحي في تشريع الجهاد، إذ وقوع القتال حال قلة العدد والعدة مظنة فناء الجماعة المسلمة فضلا عن وقوع الفتنة في كل بيت إذا قوتل أهله على الدين فالصبر تأليفا للقلوب خير للصابرين، وأظهر الوصف وحقه الإضمار على تقدير: "لهو خير لكم" إشارة إلى عموم المعنى الذي تعلق به المدح وهو الصبر، فليس المراد قوما بعينهم قام بهم هذا الوصف، وإنما المراد كل من تحلى بالصبر على جهة الديانة، فالصبر عبودية يعجز عن القيام بها معظم المكلفين لا سيما عند وقوع العدوان عليه.

ولما كان الصبر مرادا بالأصالة في هذا الموضع، إذ لم يعلق تعليقا شرطيا يحتمل الوقوع أو عدمه، وإنما سيق مساق الترغيب في التخلق به، لما كان كذلك، أكد سياقه بعدد من المؤكدات منها: اللام الموطئة في: "لئن"، ولام الجواب في: "لهو"، وهو ضمير مرجعه المصدر المتصيد من السياق، على تقدير: ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين.

وإليه أشار الطبري، رحمه الله، بقوله: "وهو من قوله: (لَهُوَ) كناية عن الصبر، وحسن ذلك، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) عليه". اهـ

فهو على حد قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، أي: اعدلوا العدل، فمرجع الضمير أيضا: المصدر المتصيد من السياق.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير