تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الابتلاء بمقتضى عدله، عز وجل، إذ ليس له إلى عبده حاجة ليظلمه فيسلبه نعمة هو إليها مفتقر، فهو واهب النعم ابتداء، فإن شاء أقر العبد عليها فضلا، وإن شاء نزعها منه عدلا، وإن شاء ألهمه الصبر إذا وقع الابتلاء فضلا، وإن شاء وكله إلى نفسه فسخط وجزع عدلا، ومن علم ذلك: علم تمام افتقاره إلى ربه، عز وجل، في كل وقت: في أوقات السلم وأوقات الحرب، في أوقات الغنى وأوقات الفقر، في أوقات الصحة وأوقات المرض فهو ما بين نعمة يصونها بالشكر، ونقمة يستدفعها بالصبر، ولكل ابتلاؤه، ولكل مقامه عند ربه عز وجل.

ومن أهل العلم من اطرد قوله في مثل هذه المواضع فقال بأنها مما نسخ بآيات السيف المدنية، إذ السورة مكية، والأمر بالصبر جار على ما كان عليه المؤمنون في مكة، فكان كف الأيدي والصبر على أذى المشركين واجب الوقت، وذلك مما يرجح كون الآية مكية، كما تقدم من اختيار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فالسياق السابق واللاحق شاهد بذلك، فالدعوة بالحكمة سباقا، والأمر بالصبر لحاقا من خصائص العهد المكي، إذ لا قوة لأهل الإسلام يدفعون بها عن أنفسهم، فصارت الحكمة في التزام السكينة والصبر على الأذى ترويضا للنفوس الأبية التي اعتادت الانتصار من الظالم المتعدي، وتربية لها على معاني الصبر على الابتلاء في ذات الله عز وجل.

والسياق، كما تقدم مرارا، أصل في معرفة مراد المتكلم.

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: إذ تولوا عن الإيمان فإنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ما كسبوا، فذلك من سنة إملائه لأعدائه.

وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ: نفي تسلط على النكرة: "ضيق" فأفاد العموم وذلك في مقام التسلية آكد، فضلا عن تسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل: "تك"، مع حذف نونه إذ المقام مقام تسلية مصاب فيحسن فيه إيجاز المبنى وإطناب المعنى، والضيق واقع لا محالة، فالنهي عنه من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تغضب)، وليس أحد إلا يغضب، فهو مما جبلت عليه النفوس في مقام الانتصار من الظالم إذا كان المظلوم يقدر على إنفاذ غضبه، فإن عجز صار حقدا كامنا في النفس حتى تسنح فرصة لإنفاذه، وفي مواضع القدرة يظهر معنى النهي المتقدم فهو نهي عما يلي الغضب من التعدي في القول أو العمل وكذلك النهي عن الضيق نهي عما يليه من اليأس والقنوط، والعجز والقعود.

والنهي عن الحزن والضيق من لوازم الصبر فعطفهما عليه من باب عطف اللازم على ملزومه إمعانا في التوكيد كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 07 - 2009, 06:45 ص]ـ

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ:

تذييل لما تقدم من الأمر بالصبر، ومن آكد صوره، كما تقدم، الصبر عن شهوة البغي والتعدي في استيفاء الثأر من العدو، فإنما قوتل ابتداء على سبيل الديانة لا على سبيل الحمية، على حد حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فلو أسلم الحربي لصار من جماعة المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ولانقلبت العداوة ولاية، والبغض محبة، فتلك معاقد الولاء والبراء التي تناط بها همم الموحدين، ويوم تبدلت المناطات فصارت قومية بعد أن كانت دينية شرعية، تخلفت المعية الربانية الخاصة: معية النصرة والتأييد، فصار القتال: جيشا لجيش، وعتادا لعتاد، وجند الباطل أكثر عددا، وأوفر عدة، فالسنة الكونية قاضية بظهورهم على أهل الإسلام المفرِّطين، وليس بين الله، عز وجل، وبين عباده أنساب إلا الطاعة: علة التمكين التي يدور معها وجودا وعدما، وليس التمكين: تمكين أبدان فحسب، فقد يمكن الإنسان إملاء واستدراجا، أو عقوبة لمفرِّط فيتسلط عليه بما عنده من القوة، وإنما التمكين: تمكين أديان ابتداء يلحقه تمكين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير