تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأبدان إذ صلاحها بصلاح الأديان، وصلاح الأديان بالسير على طريق النبوات الهادية، فهي مادة صلاح هذا الكون، إذ بها ينعم الموافق ويأمن المخالف، على حد قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، فبقاء النبوات أمان من نزول عذاب الاستئصال، والإيمان بها استدفاع له، فبالسنة الشرعية تدافع السنة الكونية وتلك طريقة أهل الإيمان في مباشرة الأسباب ولا يكون ذلك إلا فرعا عن قلب عمره التوكل، وهو من أعظم وأعسر العبوديات لا سيما في زمن طغت فيه الأسباب المادية المحسوسة، فصارت هي المعيار الوحيد في قياس الأمور، فذلك، أيضا، من المقامات التي لا ينفع فيها كثير كلام، فهي من جهة القول: يسيرة خفيفة على اللسان، ومن جهة الفعل: عسيرة ثقيلة على النفس، فلا: (يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ولو كانت هينة لنالها كل مريد، ولكنها عزيزة لا تنالها إلا النفوس الكبار، والكلام عن أصحاب تلك النفوس ذريعة إلى التشبه بهم، وإن كان اللحاق بركابهم أمرا عسيرا، فـ: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)، وفي ذلك سلوى لمن بطأ به السير، فحسبه أن يسدد ويقارب، ويسير على الطريق ولو ثقلت خطواته، فلا ينقطع لئلا يحرم ما يُنال بالنية إذا قصرت الهمة وضعف العزم، و: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ).

ولذلك حسن الفصل بين الآيتين، إذ العلة والمعلول متلازمان، كما تقدم مرارا، فبينهما شبه كمال اتصال يحسن معه الفصل ويقبح الوصل بعاطف أو نحوه، وصدرت بـ: "إن" المؤكدة، والتوكيد يحسن في مقام التعليل.

والمعية: معية نصرة وتأييد بقرينة السياق، فمادة: "مع": أصل في مطلق المصاحبة، فلا يلزم منه إثبات الحلول أو الممازجة أو نفيهما، وإنما القرينة هي التي تدل على مراد المتكلم، وآكدها في معرفة ذلك لا سيما في نصوص الإلهيات التي لا يدرك العقل حقيقتها الخارجية، آكدها: القرينة السياقية اللفظية، إذ السياق أصل في معرفة مراد المتكلم.

فقد يراد بها الممازجة في نحو: مزجت اللبن مع الماء، وهذا معنى لا يليق في حق الله، عز وجل، بل هو في غاية الفساد، إذ يلزم منه وصف الخالق، عز وجل، بأوصاف المخلوق، وذلك عين الانتقاص، فإنه لا بد أن يفقد المتمازجان أو المتحدان من أوصافهما ما يقع به الاتحاد بينهما، كاللبن الذي يفقد من قوامه ما يفقد إذا امتزج بالماء، والماء الذي يفقد من شفافيته ما يفقد إذا امتزج باللبن، ليتولد من امتزاجهما وسيط لا يوصف بأوصاف أحدهما على جهة الإطلاق، وتصور ذلك في حق الرب، جل وعلا، وإن قال به بعض مجانين البشر من عباد الصلبان ومن سار على طريقتهم من غلاة أهل الحلول والاتحاد، تصوره يثير في النفس الاشمئزاز تنزيها للباري، عز وجل، أن يعتريه من أوصاف النقص البشري ما يقدح في كماله الذاتي الأزلي الأبدي.

وقد يراد بالمعية:

المعية العامة على حد قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فلا يستفاد منها مدح أو ذم، إذ هي لكل حي، بل لكل كائن، فالله، عز وجل، معه بعلمه المحيط وقدرته النافذة، معه بجنده الذين يحفظونه من أمره، وأول الآية: "يَعْلَمُ" وآخرها: "بَصِيرٌ" شاهد بذلك، على ما تقدم مرارا من كون القرينة السياقية أصلا في معرفة مراد المتكلم.

وكقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت"، إذ ذلك يورث العبد دوام المراقبة لربه، جل وعلا، تصديقا بخبره وامتثالا لأمره، فرعا عن معيته العامة له فلا يخفى عليه شيء من سكناته أو حركاته.

وقد يراد بها:

معية النصرة والتأييد:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير