كما في هذا السياق إذ قرينة تعليق حكم المعية على أوصاف التقوى والإحسان، مئنة من كونها خاصة بعباده المتقين المحسنين، فعلتها: أوصاف التقوى والإحسان التي اشتقت منها جملة الصلة والمعطوف عليها، على ما تقرر مرارا، من كون الإتيان بالموصول في معرض ترتيب الأحكام على الأوصاف مظنة تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه صلته، فذلك من أبرز أغراضه البلاغية.
وعليه فإن احتراز بعض أهل العلم بحمل المعية في هذا السياق على المجاز في التأييد والنصرة، قد يرد عليه أن دلالة اللفظ قد ظهرت بملاحظة السياق الذي ورد فيه، فعموم المصاحبة: ظاهر لفظ: "مع" في لغة العرب، ولكن ذلك الظاهر البسيط قد اقترنت به دلالة السياق على إرادة النصرة بتعليق الحكم على أوصاف التقوى والإحسان، وهي أوصاف ثناء يصح تعليق معنى النصرة عليها، فصار: "ظاهرا مركبا" في معنى النصرة والتأييد، فزال إجماله بانضمام القرينة إلى اللفظ، فالقول بأنه في هذا السياق: حقيقة في النصرة لما احتف به من القرائن أولى من القول بأنه مجاز، إذ الأصل في الكلام حمله على الحقيقة ما أمكن فلا يصار إلى المجاز وهو الفرع إلا بعد تعذر حمله على الأصل.
وقد يراد بها:
معية الثواب: كما تقدم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ"
وحذف معمول التقوى مئنة من عموم الأمر، وقد ذكره في مواضع أخر، فيكون ذلك مما أجمل في موضع وبين في موضع آخر من التنزيل، وذلك من آكد وأسلم طرق تفسير الكتاب العزيز، إذ المتكلم أعلم بمراده، ولا تكتمل صورة الاستدلال إلا بمطالعة النصوص على جهة الاستقراء الكلي، لا الاستقطاع الجزئي، كما يصنع أهل الأهواء الذين يقتطعون من النصوص: المتشابه الذي يشهد لمقالتهم، ويعرضون عن المحكم الذي ينقضها نقضا على وزان: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ)!.
فالتقوى قد تضاف إلى لفظ الجلالة: "الله": ولفظ الجلالة اسم علم على الذات القدسية المتصفة بأوصاف وأفعال الكمال المطلق، ومنها أوصاف الجلال متعلق التقوى.
وقد تضاف إلى عقاب الله أو مكانه أو زمانه، كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، فالنار: جنس العقاب ومكانه، فبها يقع التعذيب وهي علم على محله، و: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا)، فالتقوى من ذلك اليوم لا فيه، إذ قد انقطع التكليف في دار الجزاء.
وفي السياق ترقٍ من الأخص إلى الأعم، فإن التقوى من جهة الحد: أخص من الإحسان الأعم فهو أعلى مراتب الدين، كما في حديث جبريل عليه السلام، وإن كانت أعم من جهة الأفراد: فالمتقون أكثر من المحسنين، كما أن المسلمين أكثر من المتقين.
وتقديم التقوى على الإحسان من باب التخلية قبل التحلية كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، إذ:
الأصل في التقوى الكف عن الرذائل، ولذلك ترد دوما في سياق الترهيب مما يحذر: فيقال: اتق عذاب الله، أو: غضبه، أو: اتق شر من أحسنت إليه.
والأصل في الإحسان التحلي بالفضائل وذلك لا يكون إلا بعد تخلية المحل من المعائب فهو بمعنى الترغيب أليق، كما أن التقوى بمعنى الترهيب أليق، وجنس الترغيب في فعل المأمورات أشرف من جنس الترهيب من ارتكاب المحظورات، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم كابن القيم، رحمه الله، إذ الأول مراد لذاته فعلا بينما الثاني مراد لغيره تركا فهو بمنزلة السياج الحامي للأول.
وإيراد التقوى بصيغة الفعل مئنة من الحدوث والتجدد بخلاف إيراد الإحسان بصيغة الاسم فذلك مئنة من الثبوت والاستمرار، إذ قد صار ملكة راسخة وشيمة أصيلة فيهم، وذلك مما يشهد، لما تقدم، من معنى الترقي من التقوى إلى الإحسان.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 07 - 2009, 07:28 ص]ـ
¥