تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وذلك مما يشير إلى كون الآية قد نزلت على سبب آخر، فتأولها في هذا السياق، إنما هو حملٌ لتلك الحادثة بعينها وهي من: الخاص على عموم لفظها، فالصورة: صورة دلالة عام على حكم أحد أفراده، وذلك مما يشهد لما تقدم من كون العام الوارد على سبب يدل على حكم بقية الأفراد فلا يخص بصورة السبب، إذ حكمه جار عليها وعلى بقية الصور، وإن كان حكمه عليها أقوى من حكمه على بقية الصور، فدخولها في حده كما تقدم: قطعي، ودخول بقية الصور: ظني.

وقد يحمل لفظ التأويل هنا أيضا: على تصديق الخبر على حد قول عائشة، رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ)، فتأويل الخبر: تصديقه، وتأويل الأمر كما في الحديث السابق: امتثاله، فكأن تلك الواقعة قد جاءت مصدقة لنص التنزيل، فيقال على سبيل المثال: يصح تأول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) بهذة الواقعة، وإن لم تكن سبب نزوله، ويقال كذلك: كل آية أو حديث في عصمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عصمة البلاغ يصح تأولها بهذه الواقعة إذ عمومها المعنوي يشملها، وإن لم يكن لفظها دالا عليها بعينها، فهي حادثة واحدة، والنصوص الدالة على العصمة: متعددة. فلا يتصور كون تلك الحادثة بعينها سبب نزول خاص لكل تلك النصوص، وإنما هي، كما تقدم، مما يندرج تحت عموماتها.

فتأويل الخبر: حقيقته التي توجد خارج الذهن إذا وقع، فكأن وقوع تلك الحادثة حقيقة خارجية يصح تأويل الآية بها، وإن لم تكن سبب نزولها، فالعبرة، كما تقدم، بتحقق معنى الآية فيها على جهة العموم، لا بدلالة مبناها اللفظي عليها على جهة الخصوص، وذلك جار على ما سبقت الإشارة إليه من حمل النصوص على العموم ما أمكن لئلا تهدر دلالاتها اللفظية والمعنوية.

ويقال ذلك، أيضا، في قول محمد بن إسحاق، رحمه الله، في نزول الآية في عمرو بن جحاش الذي أراد قتل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإلقاء حجر عليه كما في حادثة إجلاء بني النضير لما نقضوا العهد.

فعمرو بن جحاش واحد فيكون اللفظ في الآية مجازا فيه، أو حقيقة باعتبار الماهية، أو حقيقة بالنظر إلى مجموع المتآمرين، فلم يكن ابن جحاش وحده المتولي لتلك الجناية بل صدر عن رأي جماعة أشراف بني النضير، فهم في الوزر سواء.

وذكر صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، احتمالات في تعيين أولئك القوم، منها ما تقدم، ولم يرتض منها شيئا، بل مال إلى الترجيح بموضع آخر من التنزيل، على طريقة المحققين من أهل العلم في تفسير آي التنزيل بالتنزيل ما أمكن، فهو أول ما يفزع إليه في هذا الشأن، فقال:

"وقد ذكر المفسّرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية. والّذي يبدو لي أنّ المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذٍ؛ فيتعيّن أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة. ولم أر فيما ذكروه ما تطمئنّ له النّفس. والّذي أحسب أنّها تذكير بيوم الأحْزاب؛ لأنّها تشبه قوله: {يأيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] الآية". اهـ

فجعل التشابه في المعنى فرعا عن التشابه في اللفظ.

والشاهد مما تقدم: أنها نعمة ربانية جليلة: كفاية الله، عز وجل، المسلمين، شر القتال ابتداء، كما وقع يوم الأحزاب، فلا يعدل العاقل بالسلامة شيئا، كما تقرر في مواضع سابقة، وإنما أمر المسلمون ببذل الأسباب، مع كمال التسليم لرب الأسباب ومجريها، عز وجل، وفق سننه الكونية النافذة، فبيده ملكوت كل شيء، فقلوب الأعداء وأبدانهم تحت مشيئته، فلو شاء لانتصر منهم ابتداء، ولكنه قدر القتال إظهارا لمعاني حكمته الباهرة في جريان سنة التدافع الكونية، وإظهارا لمعاني قدرته النافذة في ظهور الحق وإن قل عدده وعتاده، على حد قوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير