وامتثال الأمر فعلا والنهي تركا فهو من مقامات الألوهية، و: الكوني النافذ ولازمه وقوع المقضي لا محالة فهو من مقامات الربوبية، والتلازم بينهما قطب رحى الملة، إذ الرب العليم الحكيم القدير: مدبر الكون بكلماته الكونيات النافذات هو الإله المستحق لتمام التأله بمقتضى كلماته الشرعيات التي جاءت بها النبوات وحيا: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)، والإنذار ترهيب بما بعد الموت من الغيب الذي لا يدركه العقل فلا يعلم إلا من جهة السمع، فانتظم ذلك أصول الإيمان: الإيمان بالرب الخالق والإله الشارع، والنبوات، والغيب الكائن في اليوم الآخر.
و: "أل": في "الكتاب": إما على العهد الذهني فيكون المراد: التوراة، أو الاستغراق الجنسي فيكون المراد: جنس الكتب المتقدمة.
وبعد إجمال القضاء جاء البيان:
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ: إفسادا مؤكدا بلام جواب القسم المحذوف، ونون التوكيد المثقلة، وهو كائن بقدر الله، عز وجل، الكوني، فالله، عز وجل، لا يحب الفساد، على حد قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ). فلا يحبه دينا وإن شاء وقوعه لحكمة بالغة تربو على مصلحة عدم وقوع المكروه، وتلك عين الحكمة الإلهية.
والإشارة بـ: "مرتين" إلى الملحمتين اللتين وقعتا ليهود مع:
البابليين والرومان، فالتثنية باعتبار جنس الملحمتين وإن تضمنتا من الوقائع الجزئية ما يزيد على المرتين كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير رحمه الله.
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا: عطف لازم على ملزومه فإن من لوازم الإفساد في الأرض العلو والاستكبار بغير الحق، فهو مظنة البغي، وقد بلغ القوم غايته قبل أن تحل بهم الملحمتان على جهة العقوبة.
ومن علا في الأرض فإنه يتشبع بما لم يعطه من وصف الكمال المطلق، فالمتكبر مستغن عمن سواه بل قاهر له، وتلك معان جلال لا يصح إطلاقها على جهة المدح إلا في حق الله، عز وجل، إذ العلو وصفه: ذاتا وشأنا لازما وقهرا متعديا، قد قهر الخلق بإرادته الكونية النافذة، فالأسباب لا تجري إلا وفق إرادته، والأعيان لا توجد إلا وفق مشيئته، فيجري عليها من سننه الكونية ما يجري فإيجاد وإعدام، وشفاء وإعلال، وإغناء وإفقار ........... إلخ.
فمن جوز لنفسه الاتصاف بهذه الصفات، أو التلبس بها على جهة الزور والبهتان، إن شئت الدقة، عوقب بمقتضى سنة التدافع الكونية، فسلط عليه جبار أطغى منه وأظلم، ليقتص منه بجنس وصفه، فهو من باب المشاكلة، إن صح التعبير.
ومن تاريخ الأندلس الحبيب شاهد: إذ ظلم عبد الملك ابن جهور، ملك قرطبة رعيته، فسلط عليه يحيى بن ذي النون ملك طليطلة فاستنجد بالأمير الشهير: المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية، أعظم ملوك الطوائف، فتظاهر بنصرته، ثم استولى على حاضرة ملكه، فقال ابن جهور في معرض تضرع المظلوم الذي كان بالأمس القريب ظالما: "اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجب الدعاء لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون"، فسلط الله، عز وجل، أمير المسلمين: يوسف بن تاشفين، رحمه الله، بطل الزلاقة، على المعتمد لما ظهر له تآمره مع ألفونسو السادس ملك النصارى، فحمله إلى أغمات مأسورا مقيدا، فكانت محنته الشهيرة التي ولدت أبياتا سارت بها الركبان:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
فلما طغا القوم أولا بعث عليهم البابليون ابتداء:
¥