تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا: أولى الملحمتين: والوعد مصدر على تأويل الموعود، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، على حد قوله تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، فهو على حد مجاز التعلق الاشتقاقي أحد أقسام المجاز المرسل المفرد، كتأويل قوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، بالمخلوق، وتأويل قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) بالمصنوع، ومن ينكر وقوع المجاز في التنزيل يقول: لا حاجة إلى ذلك، فإن السياق دال بداهة على مجيء الوعد الذي هو فعل الرب، جل وعلا، إذ بكلمته التكوينية النافذة، تقع المقدورات في عالم الشهادة وفق ما علم وقدر أزلا، فيجيء الخلق مطابقا للعلم، إذ الموصوف بهما على حد الكمال المطلق: واحد، فمن علم أزلا هو الذي شاء الخلق في لحظة بعينها فشاء بوعده: أن تجيش بابل جيوشها لتغزو بيت المقدس عقوبة لأهلها، فمجيء فعله، عز وجل، وهو هنا: الوعد، بمعنى حدوث آحاده، بمقتضى مشيئته العامة، يلزم منه مجيء الموعود الذي يكون به، فالأمر الرباني يلزم منه وقوع المأمور الكوني، على حد قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، ففيها تفرق الأمور الكونية بأوامر ربانية، وكذلك الوعد الرباني بمسرة أو مساءة يلزم منه وقوع الموعود، فالموعود فرع الوعد، فإذا أتى الأصل فإن الفرع آت بداهة، فالمخاطب يعلم بلا تكلف قرينة مجاز أن الآتي في عالم الشهادة هو مقتضى ذلك الوعد من خير أو شر، وقد يقال بأن إيثار الوعد بالذكر في هذا السياق على الموعود تنبيه على قدرة الله، عز وجل، النافذة، ففعله هو الأصل الذي صدر منه ذلك الغزو البابلي، فصدوره: صدور مخلوق مكون من خالقه بكلمة تكوينية نافذة، فهي العلة التامة المؤثرة التي يوجد المقدور عقبها، إذ ترجع إليها بقية الأسباب الكونية المخلوقة، فلا استقلال لها بالتأثير كاستقلال الكلمات الكونيات بالإيجاد والتدبير، فكل سبب لا بد له من سبب سابق إلى أن ترجع الأسباب إلى سبب كامل لا يفتقر إلى ما سواه، بل كل ما سواه هو المفتقر إليه على جهة الاضطرار، وتلك حقيقة الغنى الذاتي المطلق الذي يعاقب كل من انتحله من الخلق المربوبين، بتسليط سنة من سنن الكون عليه تكشف عواره وتفضح فقره واضطراره، لعله يرجع عن كبره وغيه، على حد قوله تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)، و: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقد انتحل فرعون والنمرود ذلك الوصف، وهو من أخص أوصاف الربوبية القاهرة، فكان من أمرهما ما كان، والسنة الربانية ماضية مطردة، فمآل مدعي الكمال افتضاح أمره بظهور نقيض ما ادعاه من النقصان، ومآل مدعي الغنى افتضاح أمره بادعاء نقيض ما ادعاه من الفقر الذاتي، وكل من نازع الجبار وصفا من أوصاف جلاله، فمآله جريان السنة الربانية بإهلاكه وإذلاله.

فلا يلتفت العاقل إلى الواقع في عالم الشهادة دون المقضي في عالم الغيب، فإن وقوع العقوبة الكونية مئنة من كمال ربوبيته، عز وجل، إذ أذن لسبب كوني أن يعمل بمقتضى مشيئته النافذة، فصرف قلوب البابليين على حشد الجمع، فبعث على بني إسرائيل بعثا كونيا نافذا، ضمن معنى التسلط إمعانا في العقوبة والنكاية، فالتسلط مظنة القهر، بخلاف البعث فإن منه الشرعي النافع، والكوني الماحق.

بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ:

ونكر العباد مئنة من عظم قواهم وكثرة عددهم وعتادهم، وزيد في الوصف إطنابا في معرض تقرير سنة العقوبة الكونية، فهم أولوا بأس شديد، فكيف ببأس خالقهم، عز وجل، الذي أذن لهم بقدرته وعدله وحكمته أن يقتحموا محلة يهود، ولو شاء لثبطهم وأقعدهم، فقلوبهم بيده، وذلك أمر تكرر في بعث المغول على حاضرة الخلافة، ولو شاء الله، عز وجل، لانتصر منهم، وحديثا بعثت أمم الشرق والغرب على أمة الإسلام فبعث السوفييت على بلاد الأفغان وبعث الصرب على مسلمي البلقان، وبعث الروم على حاضرة الخلافة كما بعث المغول عليها من قبل، فالمسمى واحد وإن اختلف الاسم ............... إلخ، وتلك عقوبة كونية نافذة، وفتنة وابتلاء، ليظهر مكنون الصدور، ويعلم المستيقن من الشاك المرتاب، فإن من غفل عن السنن الربانية في الظهور والتمكين فرعا عن الطاعة، وضعف الشوكة وانحسار الدولة فرعا عن المعصية، من غفل عن ذلك تطرق إليه الشك في صحة هذه الرسالة، لا سيما في الأعصار المتأخرة التي تقاس بها الأمور بأسباب الشهادة قياس الأرقام والمعادلات دون نظر في أسباب الغيب من سنن وكلمات تكوينيات.

فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ:

فاستباحوا المحلة بأكملها، وتخللوا طرقها وأحياءها جيئة وذهابا، وربما أقاموا نقاط تفتيش، فنصبوا أكمنة ومتاريس!.

و: "أل": في "الديار": عهدية تشير إلى ديار بعينها هي ديار بيت المقدس، إن اعتبر خصوص السبب، ولقائل أن يقول إن قياس الطرد القرآني في معرض الثواب والعقاب المعلقان على أسباب: الطاعة والمعصية، قرينة تُجَوِّز تعميم المعنى ليشمل غيرهم، فينظر إلى العموم المعنوي، وإن لم يكن اللفظ عاما، إذ هو بمنزلة العلة، والعلة: وصف عام يصح تعديه من الأصل المقيس عليه إلى الفرع المقيس.

وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا:

أي موعودا كونيا نافذا مفعولا، ووصفه باسم المفعول: "مفعولا" شاهد لما تقدم من إطلاق الوعد وإرادة الموعود، والتذييل به جار على ما تقدم من التوكيد على طلاقة القدرة الربانية في معرض بعث السنن الكونية بما ينفع أو يضر، وذلك، كما تقدم، شاهد لعظم شأن الرب، جل وعلا، من جهة نفاذ كلماته، ومن جهة إيجاد الأضداد بها، فلا يعجزه خلق الشيء وضده.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير