تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأول من عرف أنه تكلم بهذا اللفظ: أبو عبيدة معمر بن المثنى، رحمه الله، في كتابه: "مجاز القرآن"، ولكنه لم يرد به المعنى الاصطلاحي الذي اشتهر بين المتأخرين، وإنما أراد به: ما يصح حمل الآية عليه من معنى جرى به اللسان العربي، ولا بد في هذا المقام من التنبيه على اختلاف المعنى المراد من اللفظ الواحد تبعا لزمن المتكلم، فاللفظ قد يستخدم في زمن ما لمعنى معين، ثم يتغير الاصطلاح، أو العرف، فيحمل هذا اللفظ على معنى آخر، قد يكون فرعا عن المعنى الأصلي، كأن يقيد العرف أو الاصطلاح المعنى اللغوي العام الذي عرفته العرب في كلامها، فيقصره على معنى لغوي خاص، فيأتي بعض المتأخرين ويحمل ألفاظ المتقدمين على ما استقر عنده من اصطلاح، فيحدث الخلل في تفسير كلامهم لأنه حمله على ما لم يرده المتكلم، بل لم يكن معروفا أصلا في زمانه.

فأبو عبيدة، رحمه الله، لم يكن يعرف المجاز الاصطلاحي المتأخر الذي هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وقرينة صارفة، وإنما تكلم بما تعورف عليه في زمانه، إذ كان المجاز يطلق في عصره على معنى الكلام. فمجاز الاستواء على سبيل المثال: العلو لا الاستيلاء كما زعم المتكلمون في باب الصفات الإلهية.

وكذا الحال في مصطلح النسخ، فالمتقدمون أطلقوه على كل صور صرف النص عن العمل به كـ: تخصيص العام، سواء كان مقارنا له أو متراخيا عنه، وتقييد المطلق، والنسخ الاصطلاحي عند المتأخرين، والزيادة على النص ............ إلخ، بينما قصره المتأخرون على: رفع الحكم الشرعي الثابت بخطاب متقدم بآخر متأخر متراخ عنه.

وقل مثل ذلك في "الكسب" الذي توسط أصحابه بين مقالة القدرية نفاة القدر من جهة، والجبرية من جهة أخرى، فجعلوا العبد مختارا في الظاهر مجبورا في الباطن، وذلك يرجع عند التحقيق إلى مقالة أهل الجبر، ولذلك عدهم بعض من صنف في المقالات، كابن حزم، رحمه الله، من طوائف الجبرية.

إذ حملوا لفظ "الكسب" في الكتاب العزيز على مصطلحهم الحادث، فالكسب في الكتاب العزيز في نحو قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، إنما يأتي بمعنى الفعل الذي يفعله الإنسان بقدرة تامة مؤثرة في إيقاع الفعل وإرادة جازمة لا تخرج عن إرادة الله، عز وجل، الكونية النافذة، لا بمعنى قيام الفعل بالعبد بإرادة اقترانية غير مؤثرة يحدث الفعل عندها لا بها، فالنار عند أصحاب هذه المقالة يحدث الإحراق عندها لا بها، فمقالتهم تؤول في حقيقتها إلى نزع القوى المؤثرة في الأعيان والأسباب، فيصير مرد الأمر برمته إلى إرادة الله، عز وجل، الكونية، دون نظر إلى الإرادات والأسباب المخلوقة.

الشاهد أنه لا بد من تفسير النصوص، شرعية كانت أو غير شرعية بلغة عصرها لا بلغة حادثة بعدها، وإلى هذا أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:

"ولهذا ينبغي أن يقصد اذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها الله ورسوله فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التى يخاطب بها عباده وهى العادة المعروفة من كلامه ثم اذا كان لذلك نظائر فى كلام غيره وكانت النظائر كثيرة عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة لا يختص بها هو بل هي لغة قومه ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده فى الخطاب لم تكن معروفة فى خطابه وخطاب أصحابه كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك فى زمانه". اهـ

ويقول في موضع تال:

"ولا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقة مراد الله ورسوله بكلامه وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك ويجعلون هذه الدلالة حقيقة وهذه مجازا كما أخطأ المرجئة فى اسم الإيمان، جعلوا لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق وتناوله للأعمال مجازا".

"الإيمان"، ص75.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير