والشافعي، رحمه الله، وهو أول من صنف في "أصول الفقه"، لم يتعرض لهذه المسألة، وكذا محمد بن الحسن الشيباني، رحمه الله، الذي اشتهر عنه الكلام على مسائل مبنية على العربية في كتبه، كمسألة الأيمان، وقد تعرض لها أحمد، رحمه الله، تعرض أبي عبيدة، إذ لم يرد هو الآخر المعنى الاصطلاحي المتأخر، وإنما قال في كتابه: "الرد على الجهمية" في قوله: (إنا، نحن): هذا من مجاز اللغة، أي: مما يجوز في كلام العرب.
يقول ابن تيمية مشيرا إلى ما سبق:
"وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام فى أصول الفقه لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في الجامع الكبير وغيره ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز فى كلام أحد منهم إلا فى كلام أحمد بن حنبل فإنه قال فى كتاب الرد على الجهمية فى قوله: (إنا، ونحن) ونحو ذلك فى القرآن: هذا من مجاز اللغة يقول الرجل إنا سنعطيك إنا سنفعل فذكر أن هذا مجاز اللغة"
"الإيمان"، ص59.
&&&&&
ويحكي ابن تيمة أقوال المتأخرين في هذه المسألة فيقول:
"وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه، (أي: من أصحاب أحمد رحمه الله)، من قال إن في القرآن مجازا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون فى القرآن مجاز كأبي الحسن الخرزي وأبي عبد الله بن حامد وأبي الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي وكذلك منع أن يكون فى القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفا".
فكأن أتباع أحمد، رحمه الله، قد وقعوا فيما حذر منه ابن تيمية، إذ حملوا، لفظ المجاز في كلام أحمد، رحمه الله، على ما استقر عندهم من اصطلاح متأخر.
وإنكار الظاهرية من أمثال: داود بن علي وابنه أبي بكر ومنذر بن سعيد، رحم الله الجميع، إنكارهم المجاز يطرد مع مقالة أهل الظاهر التي انتحلوها، فإن المجاز خلاف الظاهر.
&&&&&
ووجه اعتراض ابن تيمية، رحمه الله، أنه لا يسلم بالوضع الأول، فالقائلون بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، يقولون:
الحقيقة: هي التي وضعت لبيان المعنى أولا.
والمجاز: هو الذي وضع ثانيا بقرينة صارفة عن الوضع الأول.
فعلى سبيل المثال: في لفظ: "أسد" قال مثبتو المجاز: وضع أولا للحيوان المفترس، ثم استعير للرجل الشجاع لعلاقة: الشجاعة، بقرينة صارفة: كقولك: رأيت أسدا يرمي، فالحيوان المفترس لا يقدر على الرماية، فيكون الأسد: حقيقة في الحيوان المفترس، مجازا في المقاتل الشجاع.
على أن الكلام لا يعلم معناه إلا بتأمل سياقه، فلا تنتزع الألفاظ من سياقاتها انتزاعا لتفسر بمعزل عنها، فمن سمع قول القائل: رأيت أسدا يرمي، علم من السياق أنه لا بد أن يكون المقصود بالأسد هنا: الرامي الشجاع، فلا مجاز هنا لأننا لم نضطر إلى الانتقال من معنى ظاهر إلى آخر مرجوح بقرينة صارفة، بل فهمنا المعنى ابتداء.
وقوله: "يرمي": قرينة سياقية، وملاحظة السياق الذي ورد فيه اللفظ أصل في فهم معناه، وليس ذلك من المجاز في شيء، لأن ظاهر اللفظ المفرد يتعين بما دل عليه ظاهر العبارة المركب.
وقل مثل ذلك في لفظ: "الجناح": فمثبتو المجاز بقولون: قد وضع اللفظ أولا: لجناح الطائر، ثم استعير لمعنى الميل في حق البشر، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ)، وقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، أي: لا تبعة، والتبعة إنما تكون فرعا عن ميل الإنسان عن الحق إلى الباطل فيصير بذلك موضع الذم والإنكار، فالميل
في حق الطائر إذ جناحه وسيلة ذلك: حقيقة، والميل في حق البشر: مجاز، إذ لا جناح حقيقي للإنسان، وإنما يكون جنوحه في المعنويات المدركة بالعقل لا الماديات المدركة بالحس.
¥