وعلى هذا، فلا يمكن إثبات مجاز في اللغة العربية أصلا، كما حققه العلامة ابن القيم، رحمه الله، في "الصواعق". وإنما هي أساليب متنوعة بعضها لا يحتاج إلى دليل، وبعضها يحتاج إلى دليل يدل عليه، ومع الاقتران بالدليل يقوم مقام الظاهر المستغني عن الدليل، فقولك: "رأيت أسدا يرمي" يدل على الرجل الشجاع، كما يدل لفظ الأسد عند الإطلاق على الحيوان المفترس". اهـ
"رسالة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز"، ص35.
وقوله رحمه الله: "ومع الاقتران بالدليل يقوم مقام الظاهر المستغني عن الدليل": إشارة إلى ما اصطلح أهل العلم على تسميته: "الظاهر المركب" الذي ينظر فيه إلى دلالة اللفظ على معناه وإلى السياق الذي ورد فيه فيتوقف فهمه على كلا الأمرين فهو مركب الدلالة من هذا الوجه بخلاف "الظاهر البسيط" فإنه، عند التحقيق، لا وجود له في كلام الناس، وإن وجد في المعاجم اللفظية، فإن الكلمة مجردة عن أي سياق لا تفيد معنى، فلا تسمى كلاما بلا قرينة من سياق حقيقي، كقولك: جاء محمد، أو: مقدر كقولك: محمد فيمن سألك: من جاء؟، فإن دلالة السؤال على العامل المحذوف في الجواب هو الذي سوغ حذفه، فلم يحذف ابتداء، فهو محذوف لفظا مقدر معنى، ولذلك أفاد اللفظ المفرد: "محمد" معنى مع كون الأصل في الألفاظ المفردة المجردة، كما تقدم، عدم حصول الفائدة بنطقها لتجردها عن القرائن.
فلا تسمى دلالة اللفظ على معناه دلالة مركبة على التفصيل المتقدم: تأويلا، لأنه لم يفسر إلا بالمتبادر إلى الذهن، وهو أمر، كما تقدم، لا يتوقف على مجرد مبنى اللفظ أو مادته المعجمية.
ففي نحو قوله تعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)
فسر أهل العلم الإتيان، بالإهلاك، بخلاف قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، فإن الإتيان فيه حقيقي على الوجه اللائق بجلال الله، عز وجل، لأن القرينة في الآية الأولى رجحت معنى الإهلاك، فالسياق سياق عذاب، فيكون الراجح المتبادر إلى الذهن ابتداء دون تأويل بصرف اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنى فرعي لقرينة، يكون الراجح: إتيانه، عز وجل، بصفات جلاله القاهرة، لا إتيانه بذاته القدسية، فضلا عن استحالة أن يكون المراد إتيانه بذاته القدسية لما يستلزمه ذلك من معنى حلوله، عز وجل، في خلق من مخلوقاته وهو: البنيان المذكور في الآية، وذلك نقص مطلق يتنزه عنه الباري، عز وجل، بخلاف الإتيان في الآية الثانية فإنه لا قرينة من السياق تصرفه عن الإتيان الحقيقي، فيكون إتيانا بالذات القدسية على الوجه اللائق بها كما اطرد في صفات الفعال المتعلقة بمشيئته، جل وعلا، النافذة.
&&&&&
ثم ذكر، رحمه الله، فصلا في الرد على من قال بأن: (كل ما جاز في اللغة العربية جاز في القرآن لأنه بلسان عربي مبين).
فناقش الدعوى ابتداء من جهة القياس المنطقي، فأجراها مجرى القياس الشمولي المؤلف من:
مقدمة صغرى: وهي: المجاز جائز في لغة العرب، على قول من يجيزه مطلقا.
ومقدمة كبرى: وهي: كل جائز في لغة العرب جائز في القرآن.
فتتولد منهما نتيجة: المجاز جائز في القرآن.
انظر الرسالة: طبعة مكتبة السنة: ص39.
ثم شرع في نقض المقدمة الكبرى، بذكر أساليب بلاغية يصح وقوعها في اللغة ولا يصح وقوعها في الكتاب العزيز، فمن ذلك:
أولا: الرجوع:
وهو رجوع المتكلم، عن معنى تكلم به، إلى معنى آخر، كقول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ******* بلى وغيرها الأرواح والديم.
والديم: جمع ديمة وهو المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق.
"فقوله: بلى وغيرها ........ إلخ. عندهم ينقض به قوله: "لم يعفها القدم" لأنه قال الكلام الأول من غير شعور، ثم ثاب إلى عقله فرجع إلى الحق، وهذا بليغ جدا في إظهار الحب والتأثر عند رؤية دار الحبيب، ولا شك أن مثل هذا لا يجوز في القرآن ضرورة". اهـ بتصرف.
¥