فمعنى البيت: قف بالديارالتي لم تندرس آثارها ثم عدل عن ذلك بالإضراب بـ: "بلى" فقد كانت لحظ طرب تذكر فيها الديار أيام كانت عامرة، ثم ثاب إلى رشده فنظر فإذا هي أطلال قد عفا رسمها وغيرها تعاقب الليل والنهار، وتوالي الرياح والأمطار.
وذلك ممتنع في حق الله، عز وجل، إذ لا يجوز أن يريد معنى، ثم يرجع عنه إلى معنى آخر. وليس النسخ كذلك لأن المعنى المنسوخ كان مرادا زمن العمل به فلما انفكت الإرادة الإلهية الشرعية عنه وصارت الحكمة في المعنى الناسخ صار غير مراد، وتعلقت الإرادة الشرعية بناسخه. فليس في ذلك، كما تقدم، ما يوهم البداء، وهو طروء الشيء بعد أن لم يكن، كما في الرجوع، فإنه يذهب مذهبا ثم يبدو له ما كان ذاهلا عنه فيرجع إلى صوابه، ومجرد تصور ذلك في حق الله، عز وجل، أمر تشمئز منه الفطر السوية.
&&&&&
ثانيا: إيراد الجد في قالب الهزل:
كقول الشاعر:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ******* فقل عد عن ذا كيف أكلك الضب.
فإن قوله: كيف أكلك للضب، يظهر أنه هزل صيغ في قالب جد، فهو يقصد به تعييرهم بأكلهم الضب. وهذا من البديع المعنوي فهو بديع المعنى، مع أنه لا يجوز في القرآن لاستحالة الهزل فيه، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ).
&&&&&
ثالثا: حسن التعليل:
وهو استنباط علة مناسبة للشيء غير حقيقية، بحيث تكون على وجه لطيف بليغ، يحصل بها زيادة في المعنى على سبيل التمليح.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، المتوفى سنة 354 هـ:
لم تحك نائلك السحاب وإنما ******* حمت به فصبيبها الرحضاء.
فهذا بديع معنوي عند أهل البلاغة، ولا يخفى أن القرآن لا يجوز أن يقع فيه ذلك الكذب الذي يدعي صاحبه أن السحاب أصابته الحمى من الغيرة من كرم الممدوح، فانصب منه العرق لشدة الغيرة، وأن ماءه هو ذلك العرق الحادث من شدة الغيرة. وقد قيل: أعذب الشعر أكذبه!!!، ولا يتصور ذلك في الكتاب العزيز.
وقوله:
ما به قتل أعاديه ولكن ******* يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب.
وهذا أيضا كذب ظاهر، للمبالغة في وصف الممدوح بالشجاعة، حتى أنه يقتل أعدائه، ليفي للذئاب بما وعدها من لحومهم، ومثل هذا لا يجوز وقوعه في القرآن.
وقول الآخر:
تقول وفي قولها حشمة ******* أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم ******* أمرت الدموع بتأديبها
فهو كذب، يدعي صاحبه أنه ما بكى، عند رؤيتها، إلا ليؤدب عينه لما استحسنت صورة غيرها، وحقيقة الأمر، أنه ما أبكاه إلا عشق صورتها الذي ملك قلبه وأسال عينه.
&&&&&
رابعا: الإغراق والغلو:
o والإغراق هو: أن يدعي المتكلم لوصف ممكن عقلا، لا عادة، بلوغه في الشدة أو الضعف حدا مستبعدا أو مستحيلا.
ومنه قول الشاعر:
ونكرم جارنا ما دام فينا ******* ونتبعه الكرامة حيث مالا
فاتباعه الكرامة في كل مكان ارتحل إليه دائما مما تمنعه العادة، وإن جاز عقلا.
ومنه قول أبي الطيب:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ******* لولا مخاطبتي إياك لم ترني.
لأنه يجوز عقلا وصول الشخص في النحول إلى هذه الحال، وإن امتنع عادة، ومعلوم أن مثل ذلك الإغراق لا يجوز في القرآن.
o وأما الغلو فهو: أن يدعي المتكلم لوصف من الشدة أو الضعف مستحيلا عقلا وعادة، فهو أشد من الإغراق.
ومنه قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه ******* لتخافك النطف التي لم تخلق.
ومثل هذا البيت لا يجوز عند أهل البلاغة، فما بالك في القرآن، ولكن الغلو يجوز عندهم في بعض الأحوال ككونه خارجا مخرج الهزل والخلاعة، كقوله:
أسكر بالأمس إن عزمت على ******* الشرب غدا إن ذا من العجب.
ثم انتقل الشيخ، رحمه الله، إلى رد زعم كثير من البلاغيين، وقوع الغلو في القرآن، مقترنا بما يجعله مقبولا، وهو اقترانه بما يقربه إلى الصحة، ممثلين بقوله تعالى: (يكاد زيتها يضيء)، فقال:
فإنه كلام باطل ومنكر من القول وزور ........ ، فهذا الكلام الذي قاله تعالى لا شك في أنه صحيح، وقوله: يكاد، معناه: يقرب، ولا شك أن ذلك الزيت يقرب من الإضاءة ولو لم تمسسه نار، ولكنه لم يضيء بالفعل كما هو مدلول الآية.
¥