تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كيف سنسمي النص المحكّك؟ هل هو النص الأول؟ أم أنه نص جديد؟ أم أنه نص مكرّر؟ لقد كان في التجربة التي أنجزها مصطفى سويف -منذ نصف قرن تقريبا- في موازنته بين نصي المخطوط والمطبوع، ورصده للكلمات المشطّبة، ومحاولة قراءتها للخلوص إلى النص الأصل في آنه الأول، تلمُّسا عميقا لقضية النص، والإضافة، أو النقصان. بيد أنه ظل يعترف بالنص المنقح أخيرا على أنه نص الإبداع. وتلك هي المفارقة التي يرفضها المنهج الذي اتبعه أساسا في استناده إلى المعطيات النفسية التي صاحبت الإبداع، وأمدته بالغياب الذي أثث معانيه وصوره. ونحن إذ نفطن اليوم إلى أن العملية الإبداعية تتجسد من خلال توالي الأقنعة، ومناسبتها للتشنُّجات المصاحبة للدفق الإبداعي، نعلم أن "الآن" يحمل سياقاته الخاصة التي يستحيل استعادتها في "آن" المراجعة. ومن ثم نرفض اعتبار النص المنقح نصا مكرِّرا للنص الأول، أو هو أسمى منه درجة. بل هو نص مغاير كل المغايرة، مختلف كل الاختلاف.

هذه الحقيقة نستمد أصولها من النص القرآني. فما اعتبرته كتب التفسير، وعلوم القرآن، والإعجاز، تكرارا في المتشابه من الآيات والقصص، ليس كذلك. بل هي نصوص أخرى اشتركت في المضمون فقط، ولها في وجودها الجديد –إضافة، ونقصا، وتحويرا- حظا من الجدة، والجمال، والدلالة. وليس في ورودها على تلك الهيئات، ما يسمح لنا بنعتها تكرارا محضا. بل إن لها في أشكالها المستجدة وجودا جديدا يقيمها في مقام التفرد المطلق. قد يقصّ أحدنا قصة لسامع، فيختار لها أسلوبا خاصا، وقد يعيد مضمونها مرة أخرى في أسلوب مغاير، ويكرر ذلك مرات، وستكون نصوصه مختلفة وإن ظل المضمون واحدا. وحقيقة هذا الاختلاف تنشأ من عاملين: اختلاف المواقف والسياقات التي تملي السرد، واختلاف "الآن" الذي يتم فيه تشكيل النص ذاته.

2 - التكرار والتوكيد التواصلي:

يذهب الزركشي إلى أن: «التكرار على وجه التأكيد، وهو مصدر كرر إذا ردّد وأعاد، هو تَفعال بفتح التاء، وليس بقياس بخلاف التفعيل. وقال الكوفيون هو مصدر فعل والألف عوض من الياء في التفعيل. والأول مذهب سيبويه. وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ظنا أنه لا فائدة له. وليس كذلك، بل هو من محاسنها لاسيما إذا تعلق بعضه ببعض.» () وإذا نحن تجاوزنا المعطى اللغوي في التكرار، استقبلتنا إشارة الزركشي إلى انقسام الدارسين –في مسألة التكرار- إلى قسمين: قسم يعده من أساليب الفصاحة، وقسم يرى فيه العي والحصر الذين يفضيان بصاحبهما إلى تكرار القول عيّا أمام الانطلاق والاسترسال. وهي مسألة تجد حجتها في كلا الموقفين من المعاينة لأحوال التواصل والمتواصلين في الخطابات العادية والرسمية. وكأن المتكأ الذي تقام عليه الحجة في التقرير والنفي، إنما يقوم على الهيئة التي يتلبَّسها المتحدث أثناء الحديث في السياق الذي يُجري فيه تواصله، وفي الظرف النفسي الذي يرفد كل ذلك في اتجاه المتلقي.

ساعتها نكون أمام شبكة محكمة التعقيد، لا يمكن النظر من خلالها إلى المسألة من جانب دون الالتفات إلى الجوانب الأخرى، كأنْ نرصد شبكة العواطف التي تربط المتحدث بالمتلقي من جهة، وشبكة العلاقات العاطفية بينه وبين الموضوع الذي يعالج. إذ كلما بلغت المشاعر درجة من الحدة والتوتر، أملت على المتحدث ضربا من "الترجيع" الذي ينتهي به سريعا إلى التكرار، سواء في شكله المحمود أو المذموم. فيكون "التقرير" شكلا للأول، ويكون الاحتباس صفة للثاني. وقد فطن الأوائل إلى هذه المسألة التواصلية، فراموا تفسيرها في الهيئات التي يرصدونها في الخطباء والشعراء ابتداء. يقول الزركشي متابعا حديثه: «وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيدا. وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصد الدعاء. وإنما نزل القرآن بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض. وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة. وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد، لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلها داعية إلى الشهوات. ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع.» () ففصاحة التكرار آتية من التوكيد والتقرير وإحكام الحجة على المتلقي من خلال ضرب من "القرع"

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير