تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الذي يؤديه اللفظ المكرر، أو العبارة المرددة. إنها في تواليها تقع على النفس أول الأمر موقع التنبيه، ثم تعود لتحتفر معناها عميقا في النفس، محدثة لونا من التعالق بين صوتها ودلالتها التي حددها السياق والهيئة التي كستها من انفعال الباث وتوتره. ولسنا في التكرار نتلقى اللفظ في وتيرة واحدة أول الإلقاء وبعده، بل لنا في كل تردّد نبر خاص ووتيرة خاصة. وكأن اللفظ لا يكرر حقيقة، وإنما يعاد إخراجه مرة أخرى في ثوب جديد. إذ ليست مهمته –حين التردد- التنبيه، أو الإخبار، بل مهمته حفر الاعتقاد الجديد في عمق النفس، وتمكين الأثر المتوخى فيها.

إنها الحقيقة التي يتوقف عندها الزركشي حينما يباشر الظاهرة في القرآن الكريم، فيبدأها بقوله: «وفائدته العظمى التقرير. وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر. وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن، فقال: ? ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون? وقال:? وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا? وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى خشية تناسي الأول لطول العهد به.» () فإذا كان التقرير هو الفائدة العظمى التي يجنيها المتلقي من التكرار، فإننا نستشف من آي القرآن الكريم فوائد أخرى ألصق بالتواصلية في بعديها النفسي والاجتماعي. ذلك أن الله ? يصرح بلفظ التوصيل الذي يتضمن الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. بيد أن للتوصيل مرام أخرى غير التقرير الذي جعله الزركشي فائدة عظمى. إنها في "التذكر" و"التقوى" و"الذكر" وكأن كل لفظ من هذه الألفاظ يطوي مجالا شاسعا من مجالات النفس البشرية في تعاملها مع الغيب، والدين، والله ?. فالتذكر مقرون بالماضي، يختص بالأخبار التي ترفعها القصص والأمثال بما فيها من عبر وعظات. والتقوى ترتبط بالسلوك اليومي الذي يتوخى المزالق والسقطات. فالذي عاين أحوال الغابرين، وعرف مساقطهم وأسبابها، يتوقى في معاشه ما يكون مثيلا لها، شبيها بوقائعها، فيبتعد عنها كما يتوقى السائر أشواك الطريق. وينصرف الذكر إلى الله ? لمعرفة قدره وجلاله.

وحين نرى في التكرار هذه المرامي التي تغطي الماضي والحاضر والمستقبل، وتربط الذات بالخالق ? ندرك أن المراد فيه ليس مطلبا تقتضيه الفصاحة وحدها، وإنما هو مطلب تواصلي يتأسس على معطيات النفس والاجتماع معا. كل ذلك ونحن مع اللفظ يُردّد مرتين أو أكثر. ومع العبارة تُستعاد في وتيرة معينة. فإذا تغير هذا الشأن وتحوّل فلسنا أمام الظاهرة التي تسمى تكرارا. وما يُحمد للزركشي –في هذا المقام- التفاته إلى ما يؤسس اليوم في الفهم الحديث حقيقة التوتر النفسي الذي يجد في المكتوب والمنطوق آثاره الدالة عليه. فهو يقول: «فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه. كقوله تعالى:? قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه? فأعاد قوله:? قل الله أعبد مخلصا له ديني? بعد قوله:? قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين? لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر. لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها. ومعنى الثاني أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص. ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني وأخر في الأول لأن الكلام أولا في الفعل وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل» () لأن تحول المراد من هدف إلى آخر لا يبقي تواتر اللفظ والعبارة في دائرة التكرار، بل ينصرف بها إلى حال أخرى تجعل العبارة الثانية "نصا" جديدا كل الجدة. نقابل فيه دلالة مستجدة تطرأ على الملفوظ.

3 - التكرار بين النحو والبلاغة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير