تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الشك والإنكار، تتطلب من المبدع الكثير من الحيطة والدقة في إجراء التكرار توكيدا، وابتغائه أسلوبا وفصاحة. إنها الفكرة التي نصادفها عند الخطيب القزويني حين يوكل العملية إلى ضرب من المقادير تُصَبُّ في المكتوب قدر الحاجة إليها، لئلا تكون محض حشو ينقلب سحره على الساحر، فيكون عيّا وحصرا. وكأنها التركيبة الصيدلانية التي تسعى لأن تكون دواء ناجعا إذا هي احترمت المقادير، قبل أن تنقلب إلى سم ناقع إذا هي تجاوزتها وأفرطت فيها. فهو يقول: «ينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، فإن كان خالي الذهن من الحكم أو التردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم. وإذا كان مترددا فيه طالبا له، حسُن تقويته بمؤكد. وإن كان منكرا وجب توكيده بحسب الإنكار.» () والجديد في عبارة الخطيب مشاكلته بين الحسن والوجوب. يكون الأول مع الطلب، ويكون الثاني مع الإنكار. وكأننا ونحن نراقب قارئنا نتحسس فيه مواطن الطلب فنقدم له فيها التكرار استحسانا لطلبه، ونقدمه وجوبا أمام إنكاره. ولسنا نرى في التفكير النقدي أدق من هذا الالتفات إلى القارئ والمتلقي أثناء الإنشاء الأسلوبي لنص المرسلة ذاتها. وكأن البلاغي العربي القديم لم يكن يصدر في تعامله مع اللغة أسلوبا عن معيارية جاهزة تملي عليه القواعد والقوالب، وإنما كان محط اعتماده على العملية التواصلية أثناء سريانها الإبداعي الأول. ففيها وحدها يتقرر المقدار والدرجة التي سيصيبها الصنيع من نفس المتلقي. وهي وحدها التي تفصح لنا عن مواطن الحسن في التكرار، ومواطن الهجنة فيه.

وإذا نحن سايرنا هذا الفهم عند البلاغيين القدامى، وجدناهم يمضون فيه إلى غايات متقاربة، تصب كلها في الاحتفال القوي بالمتلقي. وكأن الهاجس الذي كان يسكن الباث يتجاوز الصنيع الفني إلى الإفصاح والإبانة والوضوح. يقول الزمخشري: «إن جدوى التأكيد أنك إذا كررت فقد قررت المؤكد ما علق في نفس السامع، ومكنته من قلبه، وأمطت شبهة بما خالجته أو توهمت غفلته عما أنت بصدده فأزلته.» () وفي حديث الزمخشري إشارات تتصل بالعامل النفسي اتصالا يفتح في الدرس البلاغي نافذة تجاوز المعيار إلى الاستعمال، وقياس الفوز بالقصد والإبانة بدرجات المُكنة التي يحدثها الأسلوب في المتلقي. فهو يتحرك من "الذهن" إلى "القلب" وكأن الفكرة التي يقبلها الذهن ويذعن لحجتها ومنطقها الخاص، تستقر أخيرا في القلب اعتقادا. وكأننا بذلك نلحظ في الفهم العربي تدرجا في أساليب الإقناع، لا يريد للفكرة أن تظل حبيسة العقل وحده، بل يريد لها أن تنزل إلى قرار آمن .. قرار القلب، ففيه تماط الشبهات، وتمحي الغفلة.

ـ[ترانيم الحصاد]ــــــــ[02 - 12 - 2009, 04:32 ص]ـ

جزاك الله خيراَ وننتظر الحلقة الثانية.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير