تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقسم مصطفى الصاوي الجويني اهتمام النحاة والبلاغيين بالتكرار إلى قسمين. فيجعل من نصيب النحاة الاهتمام بأثر العوامل، والالتفات إلى المتلقي ومقامات الخطاب من شغل البلاغيين. ذلك حين يرى أن التكرار: «ظاهرة لغوية يتبينون فيها أثر العوامل، بينما يرعى البلاغيون مقام الخطاب، أو نفسية السامع شكا وإنكارا أو تكذيبا.» () فإذا كان انشغال النحاة ينصب على النسق الذي يرد فيه التكرار بنية، فإن البلاغيين يتحرون الصلة التي تمتد بين الباث والمتلقي في ظرفها النفسي: شكا وإنكارا وتكذيبا. وإلى السياق الذي يتأسس فيه الخطاب، أو ما يسمونه بالمقام. وكأننا حين نتدبر هذه العلاقات في إنشاء التكرار أسلوبا، نفتح أمام أنفسنا دائرتين على أقل تقدير. دائرة المشاعر المتبادلة بين الباث والمتلقي، وكأننا نجد فيها -على الرغم من تباينها- قياس التوترات التي يحملها الخطاب وهو يحاول إقناع المتلقي، أو زحزحته عن اقتناع سابق، أو تصحيح اعتقاد فاسد .. أو غير ذلك من الوضعيات التي يناسبها التكرار تأكيدا وإصرارا. وهي الدائرة التي يحدثنا عنها علم النفس الاجتماعي في رصده لمثل هذه التقاطعات بين المشاعر، والتي من شأنها تحوير الخطاب والعدول به عن القصد المؤسس له أولا.

وحين نقسم دائرة التواصل بين المقام والمعطى النفسي المتبادل بين الباث والمتلقي، فإننا نقيم لظاهرة التكرار بعدها الثقافي المعرفي. فكل خطاب يلجأ إلى التكرار، إنما يصنع ذلك استجابة إلى الداعيين: داعي المقام، أو داعي النفس. ولكننا قد نقبل هذا الفهم فيما يتصل بالحديث العادي الذي يتقابل فيه الطرفان، فكيف بنا نقبل به إذا كان التواصل قائما على المكتوب؟ إن المشاعر تأخذ حدتها من المشافهة والمقابلة، ولكنها لا تملك أن تفعل ذلك من المكتوب. هنا يعيد التفكير القائم على الوعي النفسي إعادة طرح مشكلة "المخاطَب" "القارئ" في النصوص. ذلك الشخص الافتراضي الذي حاول كثير من النقاد إقصاءه من الدائرة الإبداعية، مدعين أن لا وجود له. وأنه إن وجد، فوجوده يؤرق المبدع، ويفرض عليه ضربا من الرقابة التي تحول دون انطلاق الإبداع في مسارب التجديد. غير أن التفكير فيه –مرة أخرى- ومن زاوية تقنية التكرار الأسلوبية، يفتح فيه وظيفة أخرى. إن وجوده ليس للمراقبة، ولا للتنغيص على المبدع، بل وجوده محك لأساليب الإقناع التي يتذرّعها المبدع في عمله وأساليبه. إنه يجرب عليه فعاليتها وقوة حجتها. إنه يتحسس فيه جميع الردود التي يمكن أن يصادفها في غيره من القراء. لذلك فهو يتخير له مستوى ثقافيا معينا يلبي من خلاله جميع المستويات. إننا نتخيل قارئا ضمنيا .. افتراضيا .. وما شئنا له من مسميات .. لا ليكون أنيسنا في رحلة الإبداع، بل ليكون المحك الذي نشحذ عليه جميع أدواتنا الأسلوبية، وحججنا الإقناعية .. نرقب فيه التوتر والانفعال .. ونتحسس الشك والريبة .. والإقبال والإدبار .. فنكرر .. ونؤكد .. لأننا نريد زحزحته عن اعتقاده القديم .. وليس من مقياس لنجاح صنيعنا إلا مقدار الزحزحة التي نجريها في ذاته ومواقفه.

وإذا نحن عدنا إلى حفيف اللغة نتصنّت إلى معانيها الحافة التي تشيعها ألفاظها في طيف الاستعمالات المتعددة، رأينا كيف تكتسب اللفظة ذاتها دقتها الإشارية لتأكيد هذا الفهم. فالراغب الإصبهاني يعدد معاني "وكّد" "وكّدت": «القول والفعل أكدته: أحكمته. والسير يشد به القرموس يسمى التأكيد، ويقال توكيد. والوكاد حبل يشد به البقر عند الحلب. قال الخليل: أكدت في عقد الإيمان أجود، وكّدت في القول أجود. تقول إذا عقدت أكدت، وإذا حلفت وكّدت» () وكأن المعاني الحافة التي يشيعها التوكيد تنصرف كلها إلى لون من التعامل الشديد مع الموضوع قصد شده وتوثيقه. والأسلبة في الإبداع والكتابة عموما، عمل فيه من القوة التي تتولى المتلقي لشدِّه إلى فكرة الإقناع والتأثير. وكأننا حين نكرر اللفظ والعبارة، إنما نعمد إلى ليِّ الوثاق مرة بعد مرة على القصد الذي نتوخى. وحضور القارئ في مخيلتنا حين العملية الإبداعية يعاني ما في اللفظ من شد وإحكام. ذلك أن التأكيد تمكين. يقول يحي بن حمزة العلوي في "الطراز": «واعلم أن التوكيد تمكين الشيء من النفس، وإماطة الشبهات عما أنت بصدده.» () غير أن هذه العملية الدقيقة التي تتوخى في المتلقي حالات القبول والإذعان، أو حالات

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير