تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومعنى أنَّها خارقٌة للعادةِ أنَّها خارقٌة للمألوفِ والمعهودِ، ولا تخالِفُ العقلَ والإمكانَ، فالعقلُ لا يحيلُ – مثلاً- ألاّ تُحرِقَ النَّارُ، ولا يُحيلُ ألاّ يحترقَ الخشبُ عند ملامسةِ النار، ولا يُحيلُ أن يطيرَ الإنسانُ بجسمِه في الهواءِ، ولا أن يسيرَ برجليه على الماءِ، العقلُ لا يحيلُ شيئاً من هذا، وإنما تُحيلُه العادةُ، فإذا ما وقعت مثلُ هذه الأشياءِ كانت خارقةً للعادةِ، لا خارقةً للعقلِ، وبها نعرف أنَّ الله أجرى لهذا الرجلِ ما لم يجرِه لغيرِه من بني آدم، فنعلمُ بها صدقَ ذلك الرَّجلِ في دعواه النُّبُوَّةَ.

ومعنى أن يُظهرَهُ اللهُ: أن يكونَ هذا الأمرُ المعجزُ من الأمورِ الواضحةِ الظَّاهرةِ، وذلك بأن يَتبَيَّنَه النَّاسُ الذين ظهرَ فيهم على وجهٍ لا يُداخِلُه الشَّكُ، حتى تقومَ به الحجَّةُ على المخاطبين، ولو أجرى اللهُ المعجزةَ على يدِ نبيِّه ورسولِه ثمَّ لم تَتَبَيَّنْها إلا فئةٌ قليلةٌ لم تقم بذلك حجةٌ، إذ لا بدَّ من ظهور المعجزةِ ظهوراً يَتَبَيَّنُه النَّاسُ، ثم يتناقلونها فيما بينهم، ويشيعُ أمرُها، بحيثُ يبلغُ المخبرون بها مبلغَ التَّواترِ.

ومن هذا البابِ اشتراطُ العلماءِ وجودَ التحدِّي، بأن يُقالَ في تعريفِ المعجزةِ: هي الأمر الخارق للعادةِ يظهرُ على يدِ مدَّعي النبوَّةِ عندَ تحدِّي المنكرين له، على وجه يبيِّنُ صدقَ دعواه، والتحدِّي إن لم يكنْ ركناً من أركانِ المعجزةِ، فهو شرطٌ من شروطِها، إذ لا تقومُ الحجَّةُ على النَّاسِ إلا بظهورِ أمرِ المعجزةِ، والتحدِّي الذي يُصاحبُ المعجزةَ، ويُدعى إليه الناسُ، أبلغُ ما يكونُ في إظهارِها وبيانها لِلنَّاسِ، بل وفي تقريرِ أنَّ ما جاء به مدَّعي النُّبُوَّةِ خارقٌ للعادةِ.

مثالُ هذا معجزة موسى عليه السَّلامُ، فإنَّه لما جاءَ فرعونَ بالعصا يلقيها فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ، وبأن يدخلَ يدَه في جيبِه، ثم يخرجَها فإذا هي بيضاءُ للنَّاظرين، ظنَّ فرعونُ وحاشيتُه أنَّ ما جاء به موسى من جنسِ السِّحرِ، ولعلَّه كان معذوراً في بادي الأمرِ إذا لم يكن له حظٌّ في أصولِ السِّحرِ وغرائبِه، وكذلك العوامُّ من النَّاسِ لعلهم لم يكن لهم حظٌّ في هذا، فـ?قالَ أجيتَنا لِتُخرِجَنا من ارضِنا بِسحرِك يا موسى. فلناتينَّك بِسحرٍ مثلِه، فاجعلْ بيننا وبينك موعداً لا نخلفُه نحن ولا أنتَ مكاناً سوى. قال موعدُكم يومُ الزينةِ وأن يُحشرَ النّاسُ ضُحى?،فأرجأ فرعونُ موسى وأخاه عليهما السلامُ، وأرسل في المدائنِ لياتوه بكلِّ ساحر عليم، ثم اجتمع السحرة في يوم الزينة، وسألوا فرعونَ الأجرَ إن كان هم الغالبين، فقال فرعونُ ?نعم وإنكم إذاً لمن المقربين?، وحُشِرَ الناسُ ضحى، وهذا أبلغُ ما يكونُ في ظهورِ المعجزةِ، وإقامةِ الحجَّةِ.

ثم ?قال لهم موسى ألقوا ما أنتم مُلقون. فألقوا حبالَهم وعصيَّهم وقالوا بعزةِ فرعونَ إنا لنحنُ الغالبون. فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يافكون. فألقيَ السَّحرةُ ساجدين. قالوا آمنا بربِّ العالمين. ربِّ موسى وهارون?.

فظهرت المعجزة، وقامت بها الحجَّةُ على الناسِ أجمعين، أما السَّحرةُ فعرفوا بالضرورةِ أنَّ ما جاء به موسى عليه السلام ليس من جنسِ السِّحرِ وهم أربابُه والأدرى بعجائبه وفنونِه، وأما عامَّةُ النَّاسِ مِمَّن لا درايةَ لهم بفنونِ السِّحرِ وأصولِه، فعرفوا بالنَّظرِ أنَّ هذا ليس من جنس السِّحرِ، تفصيل ذلك أنَّ السَّحرةَ كانوا جمعاً عظيماً وحشداً كبيراً في مقابلة موسى عليه السَّلامُ، وكانوا عالمين بالسِّحرِ، بحيث تحيلُ العادةُ:

1. تواطؤهم على الكذبِ، أو الخيانة بأن يكونَ موسى عليه السَّلامُ استمالهم إلى جانبِه وأجزلَ لهم العطاءَ ليكذبوا ويخونوا.

2. أو أن يُظَنَّ أنهم لم يحكموا أصولَ السِّحرِ وفنونَه، أو غاب عنهم شيءٌ من أسرارِه وخفاياه.

ثم إن هذا التَّحدي كان في جمعٍ حاشدٍ من عوامِّ الناسُ، بحيث يتناقلونه وتطير به الأخبارُ في كلِّ صوبٍ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير