تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولو كان السَّحرةُ واحداً أو اثنين أو ثلاثةً لداخلت عامَّةَ النَّاسِ الشُّبهةُ، أن يكونَ ذلك الساحرُ الوحيدُ أو الاثنان أو الثلاثةُ ممَّن لم يُحكِموا فنونَ السِّحرِ فهانَ أمرُهم على موسى، أو أنَّهم كانوا عالمين مُتقنين ولكن عثرَت بهم حظوظُهم، وخانهم التَّوفيقُ، كالمبارزة تكونُ بين فارسين متكافيين، ثم تنتهي لا محالةَ بفوزِ أحدِهما، أو أنَّ موسى استمالهم إلى جانبِه على فرعونَ وأجزلَ لهم العطاء، بل لعلَّ هؤلاء السَّحرةَ لو كانوا قلَّةً ظنُّوا أنَّ ما جاءَ به موسى سحرٌ لم تتناهَ إليه مداركهم، ولم يكشفوا عن سرِّه، فلا يحصلُ عندهم اليقينُ أنَّ ما جاء به موسى ليس من جنسِ السِّحرِ، بل ربما ظنُّوا أنَّه سحرٌ لم يتَبَيَّنوا بعد أسرارَه!

كلُّ هذه شُّبهاتٌ يمكنُ أن تحيطَ بأمرِ المعجزةِ فلا يتبيَّنَها النَّاسُ، ولا يستيقنوها، إلاّ أنَّ الأمرَ كان على خلافِ ذلك، فقد حشدَ فرعونُ لموسى عليه السلامُ كلَّ ساحرٍ عليم، ووعدهم العطاءَ الجزيلَ، وأن يكونوا من المقرَّبين، وتحيلُ العادةُ أن يتواطأَ هذا العددُ من السَّحرةِ على الكذبِ، أو أن يكونَ موسى استمالهم على فرعونَ، وتحيلُ العادةُ أيضاً أن يكونَ هذا العددُ من السَّحرةِ العليمين بالسِّحرِ وفنونِه خفيَ عليهم سحرُ موسى لو كان ما جاء به موسى سحراً، فظهرَ أمر المعجزةِ للعامَّةِ ظهوراً لا يداخلُه الشكُّ، ولا تُشامُّه الظُّنونُ والتَّخرُّصاتُ، وسواءٌ في إدراكِ هذا الخبراءُ وعوامُّ النَّاس، الأوَّلون يدركونه بالضرورةِ، والآخِرون يدركونه بالاستدلالِ.

ثم لنكن على بينةٍ أنَّ إيمان السَّحرةِ بموسى أو استكبارَهم بعد هزيمتِهم لا اعتبارَ به، فإنهم - إذ ألقوا ساجدين- مقرّون بأنَّ ما جاءَ به موسى عليه السلامُ ليس من جنسِ السِّحرِ الذي عَرَفوه وخَبروه، وأنَّ هذا من خوارقِ العاداتِ الدالَّةِ على صدقِ دعوى النبوَّةِ، ولو أنهم استكبروا واستنكفوا أن يذعنوا لموسى لظلّوا مطالبين بأن ينفصلوا بجوابٍ عما جاء به موسى: كيف لموسى أن يغلبهم؟ ولماذا عجزوا عن مقارعته؟ وكيف ظهر ما جاء به على سحرِهم؟ فإذا ما عجزوا أن ياتوا بمثلِه، كان هذا حجةً عليهم وعلى من جاء بعدهم على صدقِ دعوى النُّبوَّةِ.

لذلك ...

فإنَّه ممّا يلزمُ لظهورِ المعجزةِ ظهوراً تقومُ به الحجة على النّاس:

أ. أن يقع بها التّحدي على جمعٍ من النَّاس لا يُتصَوَّرُ منهم العجزُ عنه إن كانوا عليه قادرين.

ب. ثم يتبيَّن عجزُ المُتَحَدَّيْن عن الإتيانِ بمثلِها.

ج. وأن تطيرَ الأخبارُ بذلك التَّحدي من جانبِ الرَّسولِ، وذلك العجزِ من جانبِ المتحدَّين وتبلغَ مبلغَ التواترِ الذي يفيدُ العلمَ الضروريَّ.

وبالنَّظرِ في القرآنِ الذي هو معجزةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، يمكنُ لنا أن نتبيَّنَ تحقُّقَ هذه الشروطِ، وحصولَها في القرآنِ على وجه لا يداخلُه الشكُّ ولا تحتفُّ به الظُّنون:

أ. إذ قرع القرآنُ أسماعَ قريشٍ والعربِ، ونزلَ على محمد صلى الله عليه وسلم منجماً، فعرفوه وخبروه، وظهرَ أمرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به في قريش وفي قبائل العربِ، وتحدّاهم إليه أن ياتوا بمثلِه في البيانِ والبلاغةِ والفصاحةِ في آياتٍ كثيرة:

قال تعالى ?قل لئن اجتمعت الإنسُ والجنُّ على أن ياتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا ياتون بمثلِه ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً?

في آيةٍ أخرى ?أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشرِ سورٍ مثلِه مفتريات?

وفي آية أخرى ?وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزَّلنا على عبدِنا فاتوا بسورةٍ من مثلٍه وادعوا شهداءَكم من دونِ اللهِ إن كنتُم صادقين?

وفي موطنٍ آخر ?أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورةٍ مثلِه وادعوا من استطعتُم من دونِ اللهِ إن كنتُم صادقين?

وكذلك قولُه تعالى ?أم يقولون تقوَّلَه بل لا يومنون. فلياتوا بحديثٍ مثلِه إن كانوا صادقين?

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير