تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلى القُلوبِ دَقيقةٌ".

أما من لم يكن قادراً على الإحساسِ بجمالِ الكلامِ من الأعاجمِ الذين لا علمَ لهم بلسانِ العربِ، أو من العربِ الذين لم يبلغوا مبلغَ العربِ الأوَّلين في معرفةِ أساليبِ الكلامِ، ومواطنِ الجمالِ فيه، فحكمُهم حكمُ عوامِّ النَّاسِ الذين يَتَبَيَّنون عجزَهم بِعجزِ أَهلِ ذلك الفنِّ على كثرتهم، ومع طولِ المدَّةِ، ووفورِ الفسحةِ في تحديهم. يقولُ الإمام الباقلاني في كيفيَّةِ الوقوفِ على إعجازِ القرآنِ:

(قد بيَّنَّا أنَّه لا يتهيَّأُ لمن كان لسانُه غيرَ العربيَّةِ، من العجمِ والتُّركِ وغيرِهم، أن يعرفوا إعجازَ القرآنِ إلاّ أن يعلموا أنَّ العربَ قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنَّهم قد تُحدُّوا على أن ياتوا بمثلِه، وقُرِّعوا على تركِ الإتيانِ بمثلِه، ولم ياتوا بمثلِه، تبيَّنوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجزَ أهلُ ذلك اللسانِ فهم عنه أعجزُ.

وكذلك نقولُ إنَّ من كان من أهلِ اللسانِ العربيِّ؛ إلاّ أنَّه ليس يبلغُ في الفصاحةِ الحدَّ الذي يتناهى إلى معرفةِ أساليبِ الكلامِ، ووجوهِ تصرُّفِ اللغةِ، وما يَعُدُّونه فصيحاً بليغاً بارعاً من غيرِه، فهو كالأعجميِّ، في أنَّه لا يمكِنُه أن يعرفَ إعجازَ القرآنِ إلاّ بمثلِ ما بيَّنَّا أن يَعرفَ به الفارسيُّ الذي بدأنا بذكرِه، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواءٌ). انتهى كلام القاضي.

ولا يضيرنا بعد ذلك ألاّ نكونَ قادرين على الإحساسِ بجمالِ النَّظم ِالقرآنيِّ، أو أن تقصرَ قرائحنا وذوقُنا عن تبيُّنِ مواطنِ الجمالِ في الكلامِ، فذلك أمرٌ مردُّه إلى الذَّوقِ، ويكفينا دليلاً قاطعاً على إعجازِ القرآنِ الكريمِ الذي به ثبوتُ نبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، عجزُ العربِ الأوَّلين عنه مع تحدِّيهم إليه، وظهورُ هذا الأمرِ ظهوراً لا يداخلُه الشكُّ، فإذا ثبتَ لنا عجزُهم عن الإتيانِ بمثلِه، فنحن عن ذلك أعجز، مثلُنا في هذا كمثلِ موسى عليه السلامُ مع السَّحرةِ وعوامِّ الناسِ الذين شهدوا ذلك المشهدَ؛ العربُ الأوَّلون أهلُ البلاغةِ والفصاحةِ – الذين أدركوا بالضَّرورةِ أنَّ القرآنَ ليس في وسعِ أحدٍ من البشرِ أن ياتي بمثلِه- كالسَّحرةِ الذين أدركوا بالضَّرورةِ أنَّ ما جاء به موسى عليه السلام ليس من جنسِ السحرِ، وعوامُّ الناسِ من العربِ المتأخِّرين وغيرِهم من العجمِ والبربرِ والتُّركِ والشَّرقيِّين والغربيِّين يدركون عجزَهم عن الإتيانِ بمثلِ هذا القرآنِ بعجزِ أَهلِ ذلك الفنِّ من العربِ الأوَّلين عن الإتيانِ بمثلِه كعوامِّ الناسِ الذين شهدوا ما جرى بين موسى عليه السلامُ والسحرةِ، وعرفوا بالاستدلالِ أنَّ عجزَ السَّحرةِ أهلِ ذلك الفنِّ على كثرتِهم دليلٌ على عجزهم هم.

وبعد ...

فلسنا هنا ننفي إمكانَ الإحساسِ بإعجازِ القرآنِ عند من أوتي من الذَّوقِ وصفاءِ القريحةِ، وذكاءِ الإحساس ما يمَكِّنُه من ذلك من المتأخرين، ولكن نقولُ إن من لم يكن له أن يحسَّ بجمالِ الكلامِ وعلوِّه، ولم يوتَ من أفانينِ البلاغةِ والبيانِ ما يتبيَّنُ به عجزَه، يكفيه دليلاً قاطعاً أن يعلمَ أنَّ عجزَ العربِ الأوَّلين عن الإتيانِ بمثلِه حجةٌ على من بعدهم من الأممِ والشُّعوبِ، وبذلك يقوم الدليل القطعيُّ على الشهادتين؛ شهادةِ ألاّ إله إلاّ الله، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبدُ اللهِ ورسولُه.

هذا والله أعلم.

وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير