تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ب. هذه الآياتُ فيها من التَّحدي ما يقرَعُ الأسماعَ، وتهتزُّ له القلوبُ، وتقشعرُّ الأبدانُ، وما يثقُلُ على النُّفوسِ، ثم إنَّ أمرَ التَّحدي قد طالَ واستمرَّ سنين طويلة، إذ نزلت آياتُ التحدي منجمةً لا دفعةً واحدةً، ولا يُتصوَّرُ في قريشٍ الذين هم أهل الأنفة والحميَّةِ، والهممِ العاليةِ، والصَّريحُ من ولدِ إسماعيلَ عليه السلامُ، ولا في العربِ من ورائهم وهم أهلُ البلاغةِ والفصاحةِ والبيانِ أن ينصرفوا عن هذا التَّحدي إلى بذلِ دمائهم وأموالِهم وفلذاتِ أكبادِهم لوأدِ الإسلامِ وإطفاءِ نورِ الله؛ أي عاقلٍ هذا الذي ينصرفُ عن معارضةِ الكلامِ – إذا كان قادراً عليها- إلى بذلِ الدماءِ والأموالِ وإسعارِ نارِ الحربِ؟ ‘‘ثم إنَّ أحكامَ القرآنِ تضمنَّت استباحةَ دمائهم وأموالهم، وسبيّ الذراري، فلو كانوا يقدرون على تكذيبِه ومعارضةِ ما جاء به لفعلوا وتوصَّلوا إلى تخليص أنفسِهم وأهليهم من حكمِه بأمرٍ قريبٍ، هو عادتهم في لسانِهم، ومالوف خطابِهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلُّفِ القتالِ وإكثارِ المراءِ والجدالِ، وعن الجلاءِ عن الأوطانِ، وعن تسليم الأهلِ والذُّرِّيَّةِ. فلمّا لم يحصلْ هناك معارضةٌ منهم علم أنهم عاجزون عنها، يبيِّنُ ذلك أنَّ العدوَّ يقصِدُ لِدفعِ قولِ عدوِّه بكلِّ ما قدر عليه، من المكايد، لا سيَّما مع استعظامِه ما أبدعَه بالمجيء من خلعِ آلهتِه، وتسفيهِ رأيِه في ديانتِه، وتضليلِ آبائِه’’، فإذا كانوا قادرين على دفعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالكلامِ والبيان الذين هم أهلُه وذووه، وأربابُه فما كان يمنعهم من ذلك لو كانوا قدروا عليه؟

ثم إنهم لم يجيئوا في معارضة القرآن بشيءٍ، مع طولِ المدَّةِ، ووقوعِ الفسحةِ، بل بذلوا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم السَّيفَ، وأخطروا بالنُّفوسِ والأموالِ والأولاد، فكيف يجوز ألا يتوصَّلوا إلى الرَّدِّ عليه، وإلى تكذيبِه بما هو أهونُ من ذلك لو كانوا عليه قادرين، وفيهم البلغاءُ والفصحاءُ والشُّعراءُ والخطباءُ؟!

فدلَّ هذا على عجزِهم عن الإتيانِ بمثلِه، على كثرتِهم، مع طولِ المدِّةِ ووقوعِ الفسحةِ، بل لقد وصلتنا الأخبار والروايات باعترافِ سادة قريش وكبرائها بنبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الكلام ليس في وسعِ بشرٍ ولا في مقدورِه أن يأتي به، ومن ذلك قول الوليد بن المغيرة: إن لقولِه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمغدقٌ أسفلُه مورقٌ أعلاه ... إلخ، وجهدوا أن ينسبوا ما جاءَ به محمدٌّ صلى الله عليه وسلم إلى السِّحرِ والكهانةِ والشِّعرِ، فلم يظفروا من ذلك بنائلٍ.

ج. ثم إنَّ أمرَ التَّحدي قد تناقلَته الرواةُ في أرجاءِ جزيرةِ العرب، وتسامعَت به الناسُ، وبما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وقريش من حروبٍ، كان يكفي قريشاً والعربَ فيها مؤونةَ الحربِ أن ياتوا بمثلِ القرآنِ، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وتناقلَ الناسُ هذا الخبرَ جيلاً بعد جيلٍ إلى يومِنا هذا، ولم يُنقلْ لنا أنَّ أحداً قَدَرَ على معارَضَةِ القرآنِ، أو ادَّعى أنَّه جاء بمثلِه، إلا أخباراً عن مسيلمةَ الحنفيِّ وأمثالِه، وهي إلى الكذبِ والخيالِ أقربُ منها إلى الحقيقةِ، إذ لا يُظَنُّ بمسيلمةَ الكذَّابِ والذي هو سيِّدُ بني حنيفةَ، ومن أفصحِ العربِ أن ينتهي به الأمرُ إلى ذلك الكلامِ الرَّكيكِ الذي تناقلتْه الرُّواةُ.

فكان هذا كلًُّه دليلَ صدقٍ على أنَّ القرآنَ من عندِ اللهِ، وعلى أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلَّم عبدُ اللهِ ورسولُه.

العرب الأَوَّلون عرفوا إعجازَ القرآن بالضرورةِ، وذلك لما وقعَ في أنفسِهم من بديعِ البيانِ، وروعةِ النَّظمِ، فإن المتذوِّقَ لجمالِ الكلامِ وبديعِه يدركُ إذا صحَّتْ قريحتُه، وصفت ذائقتِه، وذكى حسُّه أنَّ "الكَلامَ إذا علا في نَفْسِه، كانَ له من الوَقْعِ في القُلوبِ، والتَّمَكُّنِ في النُّفوسِ ما يُذهِلُ ويُبهِجُ، ويُقلِقُ ويُؤنِسُ، ويُطمِعُ ويُؤْيِسُ، ويُضحِكُ ويُبْكِي، ويُحْزِنُ ويُفْرِحُ، ويُسْكِنُ ويُزعِجُ، ويُشجِي ويُطْرِبُ، ويَهُزُّ الأَعطافَ، ويستَميلُ نحوَه الأَسماعَ، ويورِثُ الأَريحيَّةَ والعِزَّةَ، وقد يَبْعَثُ على بَذْلِ المُهَجِ والأَموالِ شجاعةً وجوداً، ويَرمي السَّامِعَ من وراءِ رأْيِه مرمىً بعيداً، وله مسالِكُ في النُّفوسِ لَطيفَةٌ، ومَداخِلُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير