تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما أننا نجد للتردد صفة أخرى يمكن أن نستفيد منها. ذلك أن التردد في النص يمكن أن يتأرجح بين الإجمال والخصوص. والنص المجمل خلاف النص المخصص. وكأن الأول يقتصر على الإحاطة بينما يضرب الثاني في كبد الحقائق الدقيقة. تلك هي الإشارة التي نستقيها من أبي السعود حين يقول: «إن النص إذا تردد بين الإجمال والتخصيص يحمل على الثاني لأن العالم المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل ليس بحجة.» () فالنص في هيئة الإجمال مغاير لهيئته في التخصيص، وتنسحب المغايرة إلى ما يستفاد منه من حكم. فالحجة فيه للخصوص، وكأن الهيئة الجديدة فيه تحمل من الزيادة ما يجعلها أكثر تمكينا وقوة من هيئة الإجمال. ومن ثم يغدو التردد اصطلاحا أكثر دلالة وفائدة لتعيين التكرار في القصص القرآني.

فإذا كان السلف قد جروا على اصطلاح واحد في تعيين تردد القصص القرآني بالتكرار، فإن بعضهم يحذر من مغبة التمادي في استعمال هذا المصطلح لما فيه من مغمز. فالغزّي يجهر بذلك صراحة قائلا: «وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه.» () لأن الفهم السليم لطبيعة القص القرآني مفارقة لطبيعة التكرار من جهة، ولأن المواجهة الفكرية والعقائدية بين المؤمنين والمنكرين تتخذ من الاصطلاح حجتها في غمز القرآن وأساليبه. فإذا تقرر عند المنكر أنه لا يواجه ظاهرة يسمها بالتكرار، فإنه سيسعى عندئذ إلى تلمس الجديد في كل صياغة تعيد عليه الموقف ذاته في أثواب مختلفة من الصياغة والعرض. فإذا بالموضوع الواحد يلبس أمام ناظريه أثوابا يقتضيها السياق، ويتطلبها الغرض الذي من أجله تردد الموضوع في هذا الموضع دون غيره.

إنها الفكرة التي تقيمنا أمام نص القصة في شكله المثالي الكامل، ونص السرد في هيئته التي يقتضيها السياق والموقف والغرض. وكأن نص القصة نص قائم دائما بعيدا عن متناول السرد، وليس أمام السرد سوى أن يقتطع منه القسط الذي يخدم غرضه. حتى وإن استعاد المقطعَ ذاتَه، فإنه في مطلب السياق والغرض يجدد له نصه السردي لتجدد الدواعي التي تمليه.

إننا حين نفطن إلى هذه الحقيقة في طبيعة السرد القرآني، نتمثل السارد –الله ?- عالما بالقصة، محيط بها من جميع جوانبها، يشملها علمه المطلق اشتمالا كليا. غير أن الغرض العقائدي والتربوي الذي يدرجه في كتابه العزيز، يميل إلى مداواة السياق الإسلامي الدعوي، وإمداده بما يحتاج إليه من خبر، ومثل، وإشارة. فنص السرد ليس هو القصة، ولا هو نصها أبدا، وإنما هو وجه من وجوهها المتعددة التي يحيط بها علم الله ? وحده.

فإذا كنا قد استأنسنا لمثل هذا الفهم، أمكننا الساعة التدرج قليلا مع الزركشي لمناقشة العلل والفوائد في التردد. فنلفاه يقول: «وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وهي أمور أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا. ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى ? وذكرها في موضع آخر ثعبانا. ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا. وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة. الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين. وكان أكثر من آمن به مهاجريا. فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين. وكذلك سائر القصص. فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين، وهم الحاضرون. الثالثة: تسليته لقلب النبي ? مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم. قال تعالى:? وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك? الرابعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة، لا يخفى ما فيه من الفصاحة. الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام. فلهذا كررت القصص دون الأحكام. السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد ? ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله. بأي نظم جاءوا، بأي عبارة عبروا. قال ابن فارس: وهذا هو الصحيح. السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال:? فأتوا بسورة من مثله? وقال في موضع آخر:? فأتوا بعشر سور? فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها، لقال العربي بما قال الله تعالى:?

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير