تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأتوا بسورة من مثله? إيتونا أنتم بسورة من مثله. فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه. الثامنة: أن القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون، وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير. وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ. فإن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها. ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة» () وهو الفهم الذي يجلي لنا صورة نص القصة "المثالي" الذي يحيط به الله ? إحاطة كاملة، والذي يتولاه نص السرد أجزاء يرددها في هيئات أسلوبية مختلفة يتجلى فيها إعجاز النظم والعرض. فما كان من مبررات "التكرار" التي ساقها الزركشي ليس سوى التعليل الخارجي للتردد في ارتباطه بالمناسبة والهدف العقائدي. وهي مبررات تستمد أحقيتها من الفقه الذي يتولى نص السرد في بنيته وشكله وتساوقه مع الموقف العام للسورة من جهة، وتشاكله مع المطلب الدعوي من جهة ثانية.

ويلتفت الزركشي إلى خاصية أخرى في التردد النصي والتكرار اللفظي، يستشف منها طبيعة النظم، وجماليات الأسلوب، فيقول: «فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة: منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا، فباين بذلك كلام المخلوقين. ومنها أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا، ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها فيكون شيئا معادا، فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات. ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير. فيجد البليغ لما فيها من التغيير ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة. ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد. وقد كان المشركون في عصر النبي ? يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء، مع تغاير أنواع النظم وبيان وجوه التأليف. فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا تلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد، لقوله تعالى:? قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا?» () فإذا كنا قد وجدنا المبررات ذات صبغة خارجية تستمد قوتها من الأثر السياقي الاجتماعي، فإن خواص النظم داخلية نسقية ترتكز في جمالياتها على المعطى اللغوي تركيبا وأسلوبا. وكأنها في صنيعها ذاك تتحول بالمعجز في القرآن الكريم من الأثر الخارجي إلى الأثر الداخلي الذي يكون له حظا نفسيا في تقرير الصدق.

وحاسة الزركشي البلاغية تملي عليه أن يتتبع هذه الخواص في خطوات ثلاث. تتدرج من اللفظ إلى النص إلى المعنى. وكأنه يدرك أن بين هذه الأطراف الثلاثة تراسلا سريا يفضي إلى حقيقة الجمال في النص القرآني جملة. لذلك ينصرف عن الشروط التي حددها النقاد والبلاغيون لفصاحة اللفظ إلى شرط الجمال في التلقي أساسا. فإذا اللفظ تحاشى الهجنة في مادته الصوتية، وتلافى الملل في محموله الدلالي والرمزي فقد استحصد شروط جمال التلقي كلها بما يضمن له القرار في النفس لذة وحسنا. فكأن المتلقي كلما ورد عليه اللفظ في حلته الجديدة يفاجئه بطعم يصب في ذائقته ألوانا من المتع، ترتفع به من حقيقة اللغة إلى حقيقة المعاينة الشاخصة. إن اللغة في مثل هذه الألفاظ لتنسحب متراجعة، فاسحة المجال أمام المعاينة التي تنفتح على الحركة الحية للموضوع. وكأن اللغة من الشفافية والخفة ما يرفع عنها ثقل القراءة والتلاوة، سريعا ما ترفع ستائرها لتكشف عن المشاهد المتحركة خلفها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير