تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ليس التردد مرهونا لوحده بظاهرة التكرار، بل التردد خاصية أسلوبية ذات هم تبليغي تلتقي وهندسة السورة أخيرا. وكأننا أمام لوحة تتعدد فيها العناصر وتتباين ألوانها وأحجامها، إلا أنها في حيز اللوحة تحتل من المواقع ما يؤهل العنصر منها لاشتغال الحيز والحجم الذي يناسبه أصلا قبل أن يناسب المعمار الذي يتموقع فيه. هذه الهيئة في السورة تمليها المقاصد التي أودعها فيها الله ? لتكون الروح الساري في أجزائها. ومثال اللوحة الذي اخترناه يكفل لنا ما تكفله اللوحة للعين التي ترمقها فتتنقل بين عناصرها متجولة في جميع الاتجاهات: ارتفاعا ونزولا، يمينا وشمالا. وكأنها في تنقلها ذاك تحاول أن تستجمع جميع العلاقات الممكنة بينها للخلوص إلى وحدتها الكبرى.

هذا الوعي فيها، يقيمنا أمام وحدتين على أقل تقدير وحدة المقاطع فيما يخصها من بناء ومقاصد، ووحدة السورة في تجميع المقاطع كلها تحت عنوان واحد. فإذا أقبل الدارس على المقطع الواحد كان له من تمامه ما يجعله يستقل بعالم خاص، لا تشوشه عليه عوالم المقاطع الأخرى، ولا تربك فيه فهمه. بل يتحول المقطع بين يديه، لما فيه من اكتمال واستقلالية نسبية، إلى كيان نابض بالحياة، يضج حركة ومشاعر وألوانا. كذلك الشأن في القصص التي ترددت في السور القرآنية، تأتي مقاطعها في مواطن خاصة من السورة لترتفع، كما ترتفع الصورة الأدبية في النسيج الإبداعي، معلنة عن توتر خاص، تنشعب بالدلالة في اتجاهات مختلفة، قبل أن تتراجع وقد تجاوزتها القراءة فاسحة المجال أمام فيض السورة المتجدد.

إن حركة الارتفاع والانخفاض في التردد القصصي في السور، يفسره المعمار المتصل بالمقاصد جملة. وليس يفهم التنوع في القصص داخل السورة الواحدة إلا على هذا النحو من التوالي بين الغرض العام للسورة وبين المثال الذي يقدمه المقطع القصصي فيها. من ثم لم يعد لفكرة التكرار من وجود يبررها. بل إن الذي: «يبدو أنه تكرار في القرآن – وأنه شيء ممل- غير صحيح. ولو كان كذلك لكانت الصور واحدة، ولكررت القصص كما تكرر الجمل المؤكدة، والأخبار المرددة لمجرد استقرارها في نفس السامع» () والذي يفحص المقاطع القصصية فحصا أسلوبيا تبليغيا في ضوء المقصد العام الذي يقدمه المعمار في السورة، يكتشف أن المقطع القصصي –في شكله المعروض- لم يقدم إلا وجها واحدا من حقيقته القصصية والدلالية، وأن فيه من الوجوه الأخرى التي يجب أن تتحول فيها الصياغة الأسلوبية تحولا تكشف فيه عن الوجوه الأخرى تباعا. وكأن نص السرد عبارة عن مرآة ذات أوجه متعددة، إذا حولناها قليلا كشف لنا وجهها التالي عن دلالة لم تكن في الوجه السابق. وهذا التحول يقتضي أن تتحول معه الهيئة الأسلوبية التي تكتنفه. إنه الأمر الذي يجعلنا نرى المقطع الواحد في ثوب التكثيف والإيجاز، وفي ثوب البسط والاسترسال، وبين بين .. وكأنه يلبس لكل حال لبوسها فيقدم ويؤخر، ويزيد وينقص .. يذكر أحداثا في موطن، ويغيبها في موطن آخر. والقراءة التي تراقب فيه هذا الصنيع تقف في كل نص من نصوصه على الجديد المستجد. إنها تقنية: «إبراز جوانب لا يمكن أداؤها على وجه واحد من وجوه التعبير. بل لابد أن تعاد العبارة أكثر من مرة، لكي تحمل في كل مرة بعضا من مشخصات المشهد .. وإن كانت كل عبارة منها تعطي صورة مقاربة للمشهد كله» () فالمشهد في نص القصة "المثال" شاخص بعيدا عن نص السرد، يقتطف منه هذا الأخير الهيئة التي تناسب المعمار العام للسورة وأجواءها. وقد يعود إليه ثانية وثالثة ليقتطف منه الموضوع عينه، ولكن في أثواب تتلون وتتمايز طولا وقصرا، بسطا وانقباضا. وصنيع اللغة في كل ذلك يراوح بين الجو المشاع داخليا في السرد وبين الجو العام للسورة. وكأننا إذ نقف على هذه الحقيقة في النص القرآني نقف على بناء ونظم لا يلتفت إلى الجزئي، بل همه في التكاملية التي ينشئها بين جميع عناصر المعمار مادية ومعنوية.

إن الذي يجنيه القارئ من هذه الميزة المتفردة للمعمار يجد قوته في الوحدة والتعدد: وحدة السورة من جهة، وتعدد مقاصدها من جهة ثانية. فالمقطع المتردد الذي صادفناه في سور سابقة أو لاحقة، يعود بين أيدينا مرة أخرى، ولكن عودته تفاجئنا دوما. وعنصر المفاجأة فيه تأتيه من التباعد بينه وبين صنوه في السور الأخرى، كما تأتيه من الشكل الذي يتمظهر فيه بين أيدينا جديدا في عرضه، جديدا في لغته، جديدا في عناصره. إنها الخاصية الجمالية في العرض القرآني التي تنقل المَشَاهد: «بجميع أبعادها وبأمانة وصدق، ولكن على دفعات ولقطات، وليس في معرض واحد حتى لا تتراكب وتتراكم. إنما يوزعها ويباعد بين مواضعها بحيث يمكن أن تستقل كل لقطة منها بذاتها، مستغنية عن كل التفاصيل. مثل اللحن الموسيقي المؤلف من أنغام متجانسة» () فالعرض في السرد القرآني يتخير في الحادثة ما يكون ألصق دلالة بالموقف الخاص قصا، وبالسياق الدعوي العام علاجا وتمثيلا. فهو إن ركز على جانب في هذه السورة، التفت إلى جانب آخر في سورة أخرى.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير