تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذلك هو شأن اللفظ، أما شأن النص فأوسع لاشتماله على الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير. فالموضوع الواحد قار ثابت في جميع الأحوال. بينما المتغير يتناوبه الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير. وكأن نص السرد في تراوحه بين هذه التارات يلبي المطالب الخارجية سياقا، والداخلية نسقا من غير أن يخل بأحدها. وهذه المراوحة تنزه النص من تهمة التكرار. ولسنا نجد من تعبير أبلغ في نفي التكرار في النصوص من لفظ التنزيه الذي اختاره الزركشي. وكأنه وجد في التراوح بين الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير ما ينفي عن القرآن الكريم مغمز التكرار في النص.

وأشد من هذا الفتح، التفات الباحث إلى المعنى المتجدد مع كل حركة. فهو لا يلتمس للجدة فصاحتها من اللفظ والتركيب، بل من أثرها في التلقي. فيرصد في الجبلة رغبة التجديد وتطلعها إليه. وكأنها تجدد بجدته عهدها بالحياة ذاتها. وقوله: "ما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة" يحيلنا على لذة النص .. بل لذة القراءة في النصوص، حين يكون النص مجالا عجيب المسالك، غريب المناظر، متجدد العناصر، ينسينا مشاق الرحلة، ويخرجنا من سيطرة الزمان والمكان القاهرة. وكأننا في فعلنا ذاك نملك الزمان والمكان على النحو الذي نصنع به لأنفسنا عالمنا الخاص المتحرر من كافة الإكراهات التي ألفناها في غيره. أليست القراءة ضرب من الرحلة التي تقتطع مشاقها من المجال الذي تذرعه. فإذا كان المجال هيِّنا، عامرا بالمناظر الجملية، كانت الرحلة من جنسه. أما إذا كان المجال خشن الطبيعة، متكسر الأديم، وعر المسالك، حزين الدروب، كانت الرحلة قطعة من العذاب.

إننا حين نعود إلى نصوص القدامى، نفحصها بأناة، نكتشف فيها ضربا من الذائقة الجمالية التي يشقيها أن تظل حبيسة النص لغة وتركيبا، بل ديدنها أن تشاكل بين اللغة والحياة. لا فرق عندها بين اللغة نظاما وبين نظام الحياة ذاتها. فما يجري على هذه جار على تلك. وما يستشف من حكمة وجمال هذه، يستشف من تلك. وكأن الذائقة العربية القديمة لم تكن لتفصل في الذات الواحدة بين حاسة الجمال الفني، وحاسة الجمال المطلق. إنها تتنقل في المتجدد فنا كان أو طبيعة تنقلا واحدا. فليس فيها ما يجعلها تسد هذه الذائقة لتفتح أخرى. وإنما تتشرب الجمال من جميع مساماتها دفعة واحدة.

وكثيرا ما يُرجع الدارسون إلى النقد الحديث اكتشاف مسألتي اللذة والمتعة في تعاطي النصوص. ويسندون ذلك الأمر إلى "رولان بارت" في حين أن المفسرين وعلماء الإعجاز قد خاضوا في ذلك خوضا بليغا. وليس يدفعنا إلى هذا التذكير شوفينية متجددة. بل لنقول أن مرادنا من "اللذة والمتعة" غير مرادهم. وأن فقهنا فيها يخالف فقههم. ذلك أن اللذة حسية ترتسم على الحواس بما تجنيه من ملامسة ومباشرة. وكأن الملتذ بالجمال –معنويا كان أو ماديا- لابد له من الاقتراب من الموضوع اقتراب المباشرة، يمتزج به امتزاج المخالطة والتماهي. وكأن المتذوق الملتذ عنصر من الموضوع الجمالي ذاته، تغيب كافة الأبعاد بينهما، فلا خارج خارج الموضوع، ولا داخل إلا داخل الموضوع. بينما المتعة تستمد حقيقتها مما يقدمه المتمتع لموضوع متعته مقابل ما جنى. وكأن الفعل فيه زيادة يقدمها فهما وفقها. وكأننا في اللذة نستشعر ضربا من الاستسلام التام للموضوع. أما في المتعة فنجد كثيرا من المشاركة والتقاطع بين ذات الموضوع وذات المتلقي.

إن الزرقاني –مثلا- يلتفت إلى معمار السورة ليتحدث عن اللذة والمتعة، فيقول: «فأنت تجد في الغالب كل سورة من سور القرآن جامعة لمزيج من مقاصد وموضوعات، يشعر الناظر فيها بمتعة ولذة كلما تنقل بين هذه المقاصد في السورة الواحدة. كما يشعر الآكل باللذة والمتعة كلما وجد ألوانا شتى من الأطعمة على المائدة الواحدة. وإذن ففي هذا النمط الذي اختاره القرآن فائدتان: دفع السأم والملل عن الناظر في هذا الكتاب. وانقياد النفوس إلى هدايته بلباقة من حيث لا تحس بغضاضة. يضاف إلى هذا ما نلمحه من الوحدة الفنية في السورة أو القطعة الواحدة. ومن وفاء القرآن بجميع الاصطلاحات البشرية» ()

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير