تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا شك في أن قيام النظم عند الجرجاني بتوخي معاني النحو يوجب حضوراً عقلياً واستعمالاً منطقياً للغة؛ ولهذا يقوم الإبداع عنده على جملة من المراحل الواعية، ينتظمها الأسلوب الفني بدءاً من الذهن وتصوراته في المعنى والمبنى، إلى مرحلة مخاطبة المتلقي، وهنا يلزم أن يراعي الشاعر حالة المخاطب لأن النظم يقوم على الروية والتفكير، وهذا انطلاقاً من الرؤية المؤسسة على أن النظم يقوم أولاً على استحضار الفكرة أولاً، ثم التمثل والنطق ثانياً، والاعتبار يكون بحال واضع للكلام.

فالترتيب الذهني والإخراج الفني المراعي لمقتضى الحال من دواعي قوة الأسلوب، ورصانته وبلاغته وجزالته، وليس الشأن في اللفظ حَسُنَ أو قَبُحَ، بل مفاضلة بين الألفاظ خارج سياق الكلام، وهذا ما جنح إليه الجرجاني، ولعله ـ هنا ـ خالف سابقيه المعتقدين بفصاحة اللفظة المفردة وجمالها، وسبقَ لاحقيه وبخاصة الطرح الألسني البُنوي المعاصر، الذي يذهب إلى الاعتقاد بأن جمال اللفظة لا يكون إلا في نظامها، وبذلك يتجلى لنا طرح الجرجاني وهو يناقش مسألة النظم في أن الأسلوب يقوم على توخي معاني النحو، لأننا في طلبها نطلب الجمال في الأسلوب والتفرد في الصياغة والقوة في الصناعة.

إن إخضاع مفهوم الأسلوب لمعاني النحو فهمٌ شاع في التراث البلاغي العربي بعد الجرجاني، لكننا نجد أن عبد الرحمن بن خلدون (ـ 808 هـ) لم يؤصل الأسلوب على معاني النحو فقط، وإنما جعل النحو والبلاغة والعروض علوم آلات تغذي سلوك الأسلوب كما يسميه، وهو طرح لا يجانب كثيراً طرح الجرجاني ولكنه يمتح من معين التقعيد الذي وقعت فيه العلوم اللغوية على زمانه. لقد تبيّن لابن خلدون أن الأسلوب عند أهل الصناعة ((عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القوالب التي يفرغ فيها، ولا يرجع على الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتباره الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية)) (9)، التي تتعدى معرفة العلوم المذكورة؛ ولا تقوم الشاعرية عند الشاعر بإدراك هذه العلوم، فكم من شاعر لا يحيط بها إحاطة كاملة، وكم من محيط بهذه الأدوات وليس بشاعر، فالفرق بين عالم البلاغة والشاعر المبدع بيّن؛ ولكنها ـ بالرغم من ذلك كله ـ تؤسس لمشروع شاعر امتلك الملكة التي تطبع ذوقه من خلال التعمق في معارفها والتمرن على أساليب هذه العلوم قراءة وحفظاً.

إن هذا الطرح الذي يعالج من خلاله ابن خلدون مسألة الأسلوب يجعلنا نطرح التساؤل التالي: إذا كانت الصناعة الشعرية خارجة عن العلوم الثلاثة فما وظيفتها؟ وبخاصة إذا علمنا أنها الأساس في صناعة الأسلوب، بل ما الأسلوب ـ أصلاً ـ عند ابن خلدون؟.

يؤكد ابن خلدون في مقدمته أن الوظيفة الشعرية أو الصناعة الشعرية ـ كما يقول ـ ((ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبناء، فيرصها فيه رصاً كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام)) (10)، وبذلك ندرك أن ابن خلدون يذهب إلى أن وظيفة الأساليب الشعرية هي استيعاب العلوم إدراكاً، ثم انتقاء منها ما يناسب التركيب الخاص بالشاعر والصور الذهنية التي يحملها وهل هي متسعة لوظائف القدرات اللغوية والإبداعية.

إن الأسلوب حسب تصور ابن خلدون صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق الأساس فيها الدربة النابعة عن قراءة النصوص الإبداعية المتفردة ذات البعد الجمالي الأصيل، وبمثل ذلك تتكون وتتألف التراكيب التي تعودنا على نعتها بالأسلوب؛ وإذا كانت التراكيب التي يكون الأساس الأول فيها اللغة هي الأداة المثلى للتشكيل الصورة الذهنية "الأسلوب" فإن الوظيفة الشعرية للأسلوب تجمل في تحقيق التجانس بين مختلف التراكيب المنتظمة في بنية أساسها اللغة، ولا يتحقق ذلك إلا بالتوفيق بين التراكيب النحوية والبلاغية من ناحية والذوق من ناحية أخرى، وبذلك نلاحظ قرب مذهب ابن خلدون في مناقشة مسألة الأسلوب من الأسلوبيين المعاصرين الذين يعرفون الأسلوب على أنه ((إسقاط

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير