تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن عملية الاختيار يحكمها جانبان: شعور فردي وجداني تمليه الدفقة الشعورية للإبداع، وآخر خارجي اجتماعي لغوي فني تفرضه القواعد والأعراف، والطقوس المتداولة عند الكتاب والمتلقين، حتى يكون هناك إدراك واضح لما تحمله النصوص الإبداعية، بفهم لغتها وما ترمي إليه، وجعلها أكثر قابلية عندهم، ومن نجد أن ((الوضوح يتحقق باختيار الكلمات المعينة غير المشتركة بين معان، والتي تدل على الفكرة كاملة، والاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، واستعمال الكلمات المتقابلة المتضادة إذا كان ذلك يخدم المعنى والفكرة، والبعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه)) (23)، بسهولة وبصورة واضحة لا تشوبها شائبة.

يبقى الاختيار من العمليات المساعدة على كشف تفرد كاتب عن كاتب آخر، من خلال أسلوبه المتمثل في اللغة المعجمية، التي انتقاها ورصها مفرداتياً بعضها إلى بعض لتصير في النهاية لغة إبداعية فنية جمالية تستهوي القارئ، وترقع النص إلى مصاف الآثار الأدبية الخالدة.

2 ـ التركيب:

إن سلامة التركيب في جميع نواحيه، معجمياً، ونحوياً، وصوتياً، وصرفياً، ودلالياً، تستدعي انطلاقه من عملية سابقة عليه، وهي الاختيار، فكلما كان الاختيار دقيقاً يخدم الكاتب والنص القارئ، حينها يأتي التركيب كذلك؛ إذ ((ترى الأسلوبية أن الكاتب لا يتسنى له الإفصاح عن حسه ولا عن تصوره للوجود إلا انطلاقاً من تركيب الأدوات اللغوية تركيباً يفضي إلى إفراز الصورة المنشورة والانفعال المقصود)) (24)، والانطباع النابع من الذات عبر النص من خلال اللغة، ليحتضنه القارئ بحرارة.

وتقاس عملية التركيب بالرجوع إلى المزاج النفسي للكاتب وثقافته الخاصة، بالإضافة إلى السمات الثقافية لكل عصر، وهي الرقيب الذي يسير الكاتب تحت إمرته حتى يفهم عند المتلقين، ((فكل كاتب له مزاجه النفسي وثقافته المتميزة، كما أن لكل عصر سماته الثقافية، ومزاجه الفكري، ومن ثم يختلف أسلوب كاتب عن كاتب، كما يختلف أسلوب عصر عن عصر، إن الموقف وطبيعة القول وموضوعه، كل ذلك سوف يفرض بالضرورة أداء يختلف عن أداء، بل إن ذلك قد يكون لدى كاتب واحد)) (25)، لأنه عايش فترتين زمنيتين مختلفتين.

أن ظاهرة التركيب التي لها علاقة تامة بالأسلوب تتحدد ضمن الأداء، من عدّة منطلقاتٍ ذاتيةٍ خاصةٍ بالكاتب ومزاجه النفسي، وثقافته المتميزة، والموضوع المتناول، وهي التي تفرض عليه لا محالة توظيف مفردات وتراكيب خاصة به، انطلاقاً مما سلف ذكره، وهذا لن يكون ذا فائدة تواصلية لغوية فنية جمالية، مالم يبق في إطار العصر وخصائصه الثقافية والفكرية واللغوية.

3 ـ الانزياح:

لقد ذهب جل النقاد الأسلوبيين، وعلى رأسهم الناقد الفرنسي "جون كوهن" إلى كشف ملامح الاختلاف بين الأساليب بدءاً بمدى انحراف الكتّاب عن النمط المألوف، والطقوس المتداولة في الكتابة في سياق نصوصهم الإبداعية؛ إذ ((الأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار المألوف ... إنه انزياح بالنسبة لمعيار، أي إنه خطأ ولكنه خطأ مقصود)) (26)، ومحمود تنزع النفس إليه مادام يحمل جمالاً فنياً.

فالانزياح في المفهوم الأسلوبي هو قدرة المبدع على انتهاك واختراق المتناول المألوف، سواء أكان هذا الاختراق صوتياً أم صرفياً أم نحوياً أم معجمياً أم دلالياً؛ ومن ثم يحقق النص انزياحاً بالنسبة إلى معيار متواضَعٍ عليه، لذا تبقى اللغة الإبداعية هي التي تسمح بهذه الخلخلات اللغوية ضمن النصوص بحملها من النفعية البلاغية إلى الفنية الجمالية؛ وهذا كله وفقاً لأفكار وتداعيات خاصة، في إطار أمنية ومواقف محددة تمليها طبيعة المواضيع المتناولة في ضمن النصوص، حيث ((أنه من غير المجدي حصر الكلام في تكرار جمل جاهزة، كل واحد يستعمل اللغة لأجل التعبير عن فكرة خاصة في لحظة معينة، يستلزم ذلك حرية الكلام)) (27) واستقلالية الخوض فيه وبه بارتياح، في رحاب لغة فنية أدبية تجعل الجمالية والتأثير غايتَيْها.

إن جمالية الانزياح عندما تخلق اللغة الإبداعية هوامش رحبة، على حساب اللغة المعجمية وانطلاقاً منها، ففيها يتأتى للقارئ الإقبال على العمل الفني، وتذوقه ومدارسته ومحاورته، بشقف ونهمٍ كبيرين، إلى درجة الاستمتاع والإثارة والاقتناع به فنياً وجمالياً.

اتجاهات الأسلوبية:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير