تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذلك، فلا مجاز إذن على هذا التأويل، وكذلك الحال في التبوؤ فإنه بتقييده بالدار صار حقيقة في التبوؤ الحسي، وبتقييده بالإيمان صار حقيقة في التبوؤ المعنوي، فالقرينة المقيدة قد صرفت اللفظ الواحد في سياق واحد إلى معنيين مختلفين فصار في كليهما حقيقة فهو نص لا يحتمل في التبوؤ المحسوس لدار الهجرة، وهو مئنة من الرسوخ وشدة التمكن من المكث في المكان، فيثرب محلة الأنصار من قديم الزمان، وهو، أيضا، نص لا يحتمل في التبوؤ المعنوي للإيمان في القلب، فصار القلب كالمحلة التي يمكث فيها صاحبها، فمعنى الرسوخ فيه أيضا، كائن، فكأن الرسوخ والثبات معنى كلي انقسمت مادته إلى حسي ومعنوي، فالأبدان راسخة في المحلة، والإيمان راسخ في القلب، وذلك ما قد يحمل أيضا على التضمين، إذ ضمن معنى التبوؤ، وهو ظاهر في الحس دون المعنى، معنى اللزوم أو الرسوخ، وهو ظاهر في الحس والمعنى معا، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، في قول حكاه في تخريج هذا الموضع من التنزيل، وخرجه بعض أهل العلم على تقدير عامل للمعطوف وهو الإيمان لعدم صلاحية العامل وهو فعل التبوؤ للتسلط عليه فهو يتسلط على المحسوسات دون المعقولات، كما تقدم، فيكون تقدير الكلام من قبيل: والذين وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَأخلصوا الْإِيمَانَ، وذلك جار على وزان تخريج بعض النحاة للبيت الشهير:

علفتها تبنا وماء باردا ******* حتى غدت همالة عيناها

فتقديره عند الفارسي والفراء وجماعة، رحم الله الجميع، كما أشار إلى ذلك صاحب "منتهى الأرب" رحمه الله: علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، لعدم صلاحية فعل "علف" للتسلط على الماء، فهو لا يتسلط إلا على المطعومات.

وذلك، أيضا جار على وزان قول من قال في قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)، بتقدير عامل للشركاء فانتفت المعية إذ الإجماع لا يكون إلا على المعقولات، بخلاف المحسوسات كالشركاء، فيؤول الكلام إلى: فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءَكم، فقدر عامل للمعطوف، وامتنع عطفه على المعية، لعدم صلاحية العامل للتسلط عليه، كما عزا ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، إلى صاحب "مغني اللبيب"، رحمه الله، ونص كلامه:

"فأما قوله تعالى: (فأجمِعوا أمرَكمْ وشركاءكمْ) في قراءة السبعة (فأجمعوا) بقطع الهمزة و: (شركاءكم) بالنصب، فتحتمل الواو فيه ذلك، وأن تكون عاطفة مفرداً على مفرد بتقدير مضاف أي وأمر شركائكم، أو جملة على جملة بتقدير فعلٍ أي واجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة، وموجبٍ التقدير في الوجهين أن أجمعَ لا يتعلق بالذوات، بل بالمعاني، كقولك: أجمَعوا على قول كذا، بخلاف جمعَ فإنه مشترك، بدليل: (فجمع كيدَه)، فذلك جمع المعاني المعقولة، (الذي جمعَ مالاً وعدَّدهُ)، فذلك جمع المباني المحسوسة، ويقرأ (فاجمَعوا) بالوصل فلا إشكال، ويقرأ برفع الشركاء عطفاً على الواو للفصل بالمفعول". اهـ

وقد أشار إلى طرف من ذلك، أيضا، في "شرح شذور الذهب" في باب: "المفعول معه".

فإما أن يقدر عامل للمعطوف، فيؤول السياق إلى: فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم، وإما أن يضمن العامل معنى يصح تسلطه على كلا المتعاطفين، فيضمن: "أجمع" معنى "جمع"، فيكون ذلك من الاستعارة عند البلاغيين بنقل معنى لفظ إلى آخر تصريحا فهو من قبيل الاستعارة التصريحية التبعية في الفعل، ومنكر المجاز يجيب عن ذلك، أيضا، بأن قرينة السياق قد دلت على المراد فورود القيد على الأمر قد رجح معنى اجتماع الأقوال، ووروده على الشركاء قد رجح معنى اجتماع الأبدان، فظهر المراد ابتداء بقرينة السياق اللفظية دون حاجة إلى قرينة عقلية خارجية ليتعين القول بوقوع المجاز.

وأما من قرأ بالرفع فلا إشكال عنده إذ الفصل بالمفعول بين فاعلين اشتركا في فعل الإجماع، فتقدير الكلام: فأجمعوا وشركاؤكم أمركم، فالفعل قد وقع من فاعلين يصح تعلقه بهما، وتسلط على معمول واحد يصح تسلطه عليه.

والتخريج الأخير لهذه المواضع يكون، كما تقدم، بتضمين العامل معنى يصح تسلطه على المتعاطفين معا على تقدير:

والذين لزموا الدار والإيمان.

واجمعوا أمركم وشركاءكم.

وأنلتها تبنا وماء فيضمن الفعل "علف" معنى الفعل: "أنال" الذي يصح تسلطه على المطعوم والمشروب معا، وذلك اختيار جماعة من النحاة كالجرمي والمزني والمبرد وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي رحم الله الجميع.

والقرينة، كما تقدم، قد رجحت معان على أخر، باختلاف التقييد تبعا لاختلاف المحل الذي ورد عليه، فوروده على المعنى المحسوس يرجح معنى لا يدل عليه وروده على المعنى المعقول.

وعند التأمل يظهر أن الخلاف بين مثبت المجاز ومنكره في هذا الموضع: خلاف هين من جهة اعتماد كليهما على القرينة السياقية، فلم يلجأ مثبت المجاز إلى قرينة عقلية خارجية، بل السياق نفسه قرينة على مجازه، ومنكر المجاز يقول: القرينة اللفظية جزء من حقيقة اللفظ فإن اللفظ لا يفسر بمعزل عن سياقه، وإنما يفسر ضمنه، فذلك جار مجرى الظاهر المركب الذي احتفت به قرائن جعلته نصا في معنى بعينه فصار حقيقة فيه دون حاجة إلى تكلف القول بوقوع المجاز، فاعتماد كليهما على القرينة السياقية وإنما اختلفت أنظارهم إليها، فالخلاف في مثل هذا الموضع يكاد يكون لفظيا، بخلاف ما وقع في باب الصفات الإلهية فإن من أولها لم يلجأ إلى قرينة سياقية، وإنما لجأ إلى قرينة عقلية في باب غيبي محض لا عمل للعقل فيه إلا التسليم بالنقل إثباتا لمعناه وتفويضا لحقيقته.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير