تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو ما اصطلح على تسميته في علم الجدل بـ: "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع". فنفي الشيء لا يقتضي ثبوته فقد ينفى وإن لم يثبت مبالغة في النفي، كما ذكر ذلك صاحب "الأضواء" رحمه الله، في نحو قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، فتأويلها على وجه من الوجه: "أي لا عمد لها حتى تروها"، فنفى العمد المرئية وأراد نفي العمد مطلقا، فلا يلزم من نفيها وجودها ابتداء وإنما خرج الكلام مخرج المبالغة كما تقدم.

والمضارعة مئنة مما تقدم من استمرار الوصف واستحضار تلك الصورة التي سجلها التاريخ الإنساني فضلا عن تاريخ الرسالات لصحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأنصار، فلا يجدون أي حاجة، لدلالة العموم بورود النكرة في سياق النفي، وتسلط النفي على المصدر الكامن في فعل الوجدان المعنوي، الذي ناسب كونه معنى تعلقه بالصدر الذي تجتمع فيه معاني الحب والبغض، فهو مستودع المشاعر الإنسانية، والضمير في "أوتوا" عائد على المهاجرين، على ما ارتضاه صاحب: "التحرير والتنوير"، فيكون ذلك من باب عود الضمير على: "من" باعتبار معناها الذي يحتمل الجمع، بعد عود الضمير من: "هاجر" على لفظها، فلو أعاد على المعنى لقال: "هاجروا"، وذلك على وزان قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فأعاده على اللفظ في نحو: "أسلم"، و: "وجهه"، و: "وهو محسن"، و: "فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ" وأعاده على المعنى في نحو: "وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، وذلك من التنويع اللفظي الذي يدل على سعة لسان العرب الذي جاء به التنزيل.

ودلالة: "من" في: " مِمَّا ": تعليلية لا تخلو من معنى الابتداء، الذي لا تنفك عنه أبدا وإن احتملت غيره معه كما أشار إلى ذلك صاحب "مغني اللبيب" رحمه الله، فلا يجدون في أنفسهم حاجة ناشئة بسبب ما أوتيه إخوانهم من المهاجرين من الفيء، فذلك على وزان قوله تعالى: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا)، فنشأ العذاب بسبب ما اقترفوه من الخطايا. فيكون الحرف قد دل على أكثر من معنى في آن واحد، على نحو لا يقع به التعارض، وذلك أبلغ من جهة إثراء المبنى الواحد بورود أكثر من معنى عليه على نحو تتعاضد فيه المعاني ولا تتعارض.

وإطنابا في وصف المدح: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ: فالإيثار مئنة من الحب، ومئنة من عدم الشح والبخل، بل هو لازمه فنفي الشح يستلزم إثبات الإيثار، وإثبات الإيثار يستلزم نفي الشح، على طريقة المحققين من أهل الأصول فالأمر بالشيء أو إثباته يستلزم النهي عن ضده أو نفيه، فيكون ذلك من عطف المتلازمات، فعطف الإثبات على ملزومه من النفي من باب الإطناب، كما تقدم، في وصف الثناء، بل هو أبلغ، إذ الإثبات في باب الثناء أبلغ من النفي، فالأول مراد لذاته، بخلاف الثاني فهو مراد لغيره، فلا يتحقق معنى الثناء في النفي إلا بإثبات ضده، وهذا أصل في عرف اللسان العربي، فالمدح إنما يكون بالصفات الثبويتة لا بالصفات السلبية فالإطناب في نفي النقص مئنة من النقص!، فلا يكون جاريا مجرى الثناء إلا بإجماله، وإثبات ضده، كما في هذا السياق، فلم ينف عنهم وصف الشح الذي يقتضيه وجدان الحاجة في الصدر مما يؤتاه الغير من نعمة، بل أتبع ذلك بإثبات وصف الإيثار، فهو الأليق بسياق المدح، فيؤثرون المهاجرين على أنفسهم فذلك جار مجرى إيجاز الحذف لدلالة السياق عليه اقتضاء، فالمؤثر لا يتم فعله إلا بمؤثَر، فالفعل: "آثر": على وزان: "فاعَل"، فهو من المزيد الذي أفادت صيغته بزيادة ألف المفاعلة: التشارك فضلا عن دلالته على المغالبة فالفعل منهم أظهر، ففي نحو قولك: آثر زيد عمرا على نفسه، يظهر معنى المغالبة من كون زيد الفاعل الذي قام بالفعل، وعمرو المفعول الذي وقع عليه، فالفاعل أوثق صلة بالفعل من المفعول، ولذلك كان عمدة في الكلام، فحذفه خلاف الأصل، فضلا عن كونه هو والفعل كالكلمة الواحدة، بخلاف المفعول الأجنبي عن الفعل إذا ما قورن بالفاعل، فلا يخلو من نوع تعلق بالفعل، ولكنه لا يرقى إلى تعلق الفاعل بالفعل، فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول يقع عليه، فذلك من دلالة اللزوم العقلي، ومع ذلك قد يستغنى عن ذكره عقيب فاعل الفعل المتعدي كـ: أكل زيد فالمعنى يتم بدونه، فضلا عن عدم وروده بعد الفعل اللازم إلا بواسطة كحرف الجر في نحو قولك: خرج زيد من الباب، بخلاف الفاعل، فحذفه، كما تقدم، خلاف الأصل، فحذف المفعول، كما اطرد في كلام البلاغيين، له أغراض متعددة، فيكثر حذفه استيفاء لتلك الأغراض، ولا يجب ذكره إلا إذا كان محط الفائدة كأن يكون السؤال عنه، بخلاف الفاعل فإنه، كما تقدم، عمدة.

واحترز بقوله: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ: إمعانا في المبالغة في وصف الإيثار، على ما اطرد من دلالة الحروف الوصلية كـ: "إن"، و: "لو"، فالإيثار في أزمنة السعة يقع من كثير من أهل الكرم، بخلاف الإيثار في أزمنة الشدة، فلا يقع إلا من آحاد الكرماء.

ثم جاء الشرط تذييلا مؤكدا بمعناه لما تقدم، فهو خبر بلفظه إنشاء بمعناه إذ فيه الحض على لزوم الكرم واجتناب البخل والشح، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: على حد القصر الإضافي بتعريف الجزأين فضلا عن دلالة ضمير الفصل على الحصر والتوكيد، فهم، على سبيل المبالغة، لا غيرهم: المفلحون.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير