تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ: فذلك على تقدير مبتدأ محذوف على ما اطرد من حذف المبتدأ، في مثل هذه المواضع، مع كونه عمدة في الكلام، فتقدير الكلام: هي خافضة رافعة، فتخفض أقواما وترفع أقواما، ونسبة الخفض والرفع إليها من نسبة المسبَّب إلى سببه، فالخافض الرافع هو الرب، جل وعلا، وذلك عند من يقول بالمجاز ضرب من ضروب المجاز العقلي بإسناد الفعل إلى غير فاعله، على وزان: أنبت الربيع البقل، وذلك ما اعترض عليه منكرو المجاز بكونه ذريعة إلى نفي تأثير الأسباب في وقوع مسبًّباتها، فنفي إنبات الربيع بما أودع فيه من قوى الإنبات، نفي ذلك من كل وجه، ولو من جهة السببية، وجعل الرب، جل وعلا، فاعلا له من كل وجه، مؤد إلى نفي قوى التأثير التي أودعها الله، عز وجل، في الأسباب، وذلك مسلك نفاة الحكمة والتعليل بالأسباب، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين من أهل العلم، والصحيح أن للفعل جهتين لا يمتنع اجتماعهما، فجهة الرب، جل وعلا جهة فعله بالخلق، فيخلق السبب ويجريه على وفق سنن الكون، فينتج مسبًّبه بما أودع فيه من القوى، فتلك جهة السبب المخلوق فهو مؤد إلى وقوع مسبّبه، بما أودع فيه من قوى التأثير، كما تقدم، فهو الفاعل بقواه، والرب، هو الخالق بمشيئته العامة، فلا يخرج فعل السبب سواء أكان اختياريا كما في أفعال البشر، أم اضطراريا كما في تأثير الأسباب غير العاقلة كتأثير النار في الحريق والماء في إطفائه، لا يخرج كل ذلك عن المشيئة الكونية العامة، فلا تعارض، كما تقدم، بين جهة الخلق، فعل الرب، جل وعلا، مسبِّب الأسباب ومجريها وفق سنن الكون المحكم، وجهة الفعل التي هي أثر القوى المودعة في السبب المخلوق، فالفعل المخلوق لا بد أن يرجع إلى سبب يسبقه، فلكل علة علة تسبقها حتى يصل الأمر إلى سبب أول لا سبب وراءه، هو كلمة الرب، جل وعلا، الكونية فهي من وصفه، ووصفه الفاعل لا خالق له، فهو غير مخلوق قد قام بذات الرب، جل وعلا، القدسية على الوجه اللائق بجلاله، وهذا أصل جليل في باب القضاء والقدر سبقت الإشارة إليه في مواضع سابقة.

وعليه تكون الواقعة هي الخافضة الرافعة من جهة كونها السبب فأسند الوصف إليها من هذا الوجه، وأسند الفعل إلى الرب، جل وعلا، من جهة خلق السبب وإجرائه وفق ما قدر في الغيب وقضى في الشهادة، فتوارد على الفعل أثران: أثر مخلوق يؤثر فيه حقيقة لا مجازا، وأثر يحكم الأثر المخلوق بل ويهيمن عليه وعلى كل الأسباب المخلوقة، هو أثر وصف الرب الفعال لما يريد، فمشيئته العامة تحكم كل حركات الكون الاختيارية والاضطرارية، كما تقدم، فلا تعارض بين الأثرين إذ أحدهما خاضع للآخر خضوع المخلوق لخالقه، فالكلمة الكونية التقديرية من وصفه، جل وعلا، قد صدرت، فهي أثر أوصافه الفاعلة، كما تقدم، فكان بها ما أراد من الحوادث الكونية المخلوقة، فبها وجد السبب، وبها أجري وفق السنن المحكم فذلك أثر حكمته البالغة، جل وعلا، في كونه، فكان المسبَّب، فذلك أثر قدرته النافذة، فمرد الأمر عند التحقيق إلى وصف جلاله، عز وجل، فهو القدير على إيجاد ما يشاء، ووصف جماله، فهو الحكيم الذي يوجد ما أراد على أكمل الهيئات، فإن كان فيه شر، فعارض، لا يكون مرادا لذاته، بل هو الذريعة إلى خير أعظم، وتلك، كما تقدم مرارا، أبلغ صور الحكمة، فللرب، جل وعلا، من كل وصف أكمله.

وفي الطباق إيجابا بين الخفض والرفع مئنة من عموم القدرة الربانية، فالرب، جل وعلا، هو فاعل الشيء وضده، فهو المحيي المميت، النافع بفضله الضار بعدله فينسب الضر إليه خلقا لا فعلا، فتعالى أن ينسب إليه شر فعلا، وإنما ينسب إليه خلقا مرادا لغيره من الخير والنفع، كما تقدم، وفي تقديم الخفض على الرفع ما يناسب ذلك الموضع وهو موضع جلال تظهر فيه آثار قدرته، عز وجل، فالخفض لغيره أليق بموضع يظهر فيه كمال عزته ورفعته.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير