تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد يقال بأن تقدير الكلام: فيقال للمؤمن: سلام لك، فذلك من دعاء الملائكة له، وتلك من صور العناية بالعبد المؤمن، فلا يسمع إلا الثناء الجميل فـ: (سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، ثم ذيل الدعاء بالثناء على جهة التوكيد الرافع لكل خوف من فوات المحبوب: أنت من أصحاب اليمين، فحذف المسند إليه لدلالة السياق عليه، إذ هو المخاطب بالدعاء فالضمير المتقدم في: "لك" قد دل على الضمير المقدر المحذوف، فتكون من على هذا الوجه: تبعيضية، ولا تخلو من معنى الجنسية، فأنت من جنس أصحاب اليمين، وأنت فرد من عمومهم فذلك وجه التبعيض في هذا التأويل.

وقد يقال بأن الضمير عائد على الضمير المستتر في: "وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ": فيكون ذلك من الالتفات من الغيبة إلى الحضور، وذلك، أيضا، من كمال العناية بالمخاطب، فسلام له من أصحاب اليمين، فيسلم عليه أصحاب اليمين، وذلك مئنة من الكرامة، فـ: "من" على هذا الوجه: ابتدائية، فابتداء غاية التسليم من أصحاب اليمين.

فيكون ذلك جاريا مجرى الاشتراك اللفظي في: "من"، فتدل على أكثر من معنى لتعدد أوجه التأويل، ولا مانع من الجمع بين تلك المعاني، فلا تعارض بينها، وذلك، كما تقدم، في أكثر من موضع، إثراء للسياق بتوارد المعاني الصحيحة عليه. فكلها تدور حول معنى الرفعة والكرامة، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ:

فقدم الكذب على الضلال في سياق الجزاء لكونه السبب، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك أقطع للعذر، فالسبب مؤد إلى مسبَّبِه بداهة، فالدلالة العقلية شاهدة بصحة ذلك.

فنزل من حميم: على ما اطرد من التفريع فذلك الوجه الثالث: وصدر الجزاء بالنزل تهكما، فالنزل لا يكون إلا للضيف على سبيل التكريم!، فتطلعت النفوس إلى الكرامة، فجاء التذييل بجنس الحميم فذلك من النكاية بمكان، والتنكير في: "نزل" مئنة من التعظيم، وذلك، أيضا، جار مجرى التهكم، فتعظيم النزل مئنة من زيادة التكريم، فإذا به عين الإهانة، وأما تنكير: "الحميم" فهو جار مجرى التعظيم على سبيل الإهانة.

وتصلية جحيم: فذلك من التناسب مع النزل، فالتصلية تكون للشواء الذي يكرم به الضيف، فإذا بالتصلية له لا للشواء!.

ثم جاء التذييل في ختام السورة تقريرا لما تقدم من قسمة العدل بين الأنواع الثلاثة:

إن هذا لهو حق اليقين: فاسم الإشارة عائد على ما تقدم، لقرب ذكره، ولا تخلو الإشارة من نوع تعظيم للمشار إليه على وزان:

هذا الذي تعرف البطحاء وطئته ******* والبيت يعرفه والحلُّ والحرم.

ُ

فهو غني عن التعريف، فكذلك تلك القسمة الثلاثية لموافقتها لدلالة العقل الصريح قد صارت من البدهي الضروري الذي لا ينكره أحد لاشتهاره، فالدلالات العقلية الضرورية لا يماري فيها إلا جاحد أو مسفسط. وأضيف الحق إلى اليقين: إضافة الموصوف إلى صفته، فذلك من قبيل قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ)، أي: وما كنت بالجانب الغربي، وذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وجها آخر، تكون فيه الإضافة من قبيل قولك: هذا يقين اليقين، فذلك توكيد بإضافة الشيء إلى نفسه، أو إضافة المرادف إلى مرادفه، أو شبه المرادف إلى مرادفه، فالحق مظنة اليقين من جهة المعنى الكلي، ولكنهما يتباينان من جهة المعنى الجزئي فلكل دلالة يختص بها، فلا يترادفان من كل وجه، على ما قول من أنكر الترادف المطلق بين الألفاظ، فضلا عن المؤكد الناسخ، واللام المزحلقة الداخلة على ضمير الفصل، وضمير الفصل، وتعريف الجزأين، فكل تلك المؤكدات لما تقدم من تلك القسمة الثلاثية التي تظهر فيها آثار قدرة وحكمة وعدل الرب، جل وعلا، وهو ما استوجب له الحمد والثناء المطلق فـ: سبح، على جهة التنزيه من العجز والسفه والظلم، فهو الحكم العدل بين تلك الأنواع فـ: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير