تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليست طاعة الرسل عليهم السلام سببا في وقوع المصائب، كما زعموا، بل اتباع الرسالات سبب النجاة في الأولى والآخرة، فإن لحق أتباعها نوع أذى من أعدائها، فهو أذى جزئي لا تقارن مفسدته العارضة بالمصلحة العظمى الآجلة، فضلا عن وقوع الحسنة في الدار الأولى فهي عاجل البشرى، فتمكين لأتباع الرسالة بعد الابتلاء الممحص لما في القلوب، فينفى خبثها بكير الابتلاء الكوني النافذ، ونجاة في الدار الآخرة، لمن سدد فاتبع الرسالة وصبر نفسه مع أتباعها، فاحتمل مشاق التكليف بأحكامها وصابر أعدائها في ميادين الجهاد: لنفسه وللشيطان ولأعداء الرسالات من الجاحدين بالحجج والبراهين تارة، وبالسيوف والأسنة أخرى، ولكل ساحة لأمتها.

أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ:

فجاء الإبطال لذلك المعتقد الفاسد بالاستفتاح تنبيها للسامع وتمهيدا لإلقاء الحق على نفوس قد انتبهت وتشوفت إلى تلقيه، ثم جاء القصر بـ: "إنما": وهي أولى درجات القصر، فذلك مئنة من كون ذلك من المعلوم البدهي الضروري لمن لم يفسد قياسه العقلي، فلا يفتقر إلى ألفاظ ذات دلالات توكيدية كبيرة، وإنما يكفي في توكيده أدنى درجات التوكيد بالحصر بـ: "إنما"، فذلك من جنس القصر في قوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فذلك، أيضا، من المعلوم البدهي، بل هو أعظم العلوم ضرورة في النفوس، فهو حاصل لكل مولود، وإنما يعرض لفطرة التوحيد الأولى: ما يحرفها عن التوحيد إلى الشرك من تثليث أو اتخاذ لآلهة غيره، تبارك وتعالى، شرفت أو صغرت، كثرت أو قلت، فكل ما اتخذ معبودا من دون الله، عز وجل، فعبادته باطلة، ولو كان في نفسه شريف القدر كالأنبياء والأئمة والأولياء والصالحين ...... إلخ.

وهو من وجه آخر: قصر حقيقي، فكل ما يصيب العبد من الحسنات أو السيئات الكونية إنما يكون بمشيئة الرب، جل وعلا، فهي عامة لكل الكائنات، نافذة بما أراد الرب، جل وعلا، فلا يكون إلا ما شاءه تبارك وتعالى.

فـ: "إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ": فهو الخالق له، فتلك جهة إضافته إليه، عز وجل، فهو خالق الشر الذي ينزل بهم، فلا تكون سعة أو ضيق إلا بمشيئته، فذلك من وجه آخر: قصر قلب لمعتقدهم إذ اعتقدوا أن الكليم عليه السلام ومن معه هم سبب الشؤم، وإنما الشؤم الذي حل بهم من أنفسهم فذلك طائر العمل، وهو من خلق الله، عز وجل، جزاء وفاقا، فهو طائر الجزاء على سوء عملهم، فتحرير جهة الإضافة، كما تقدم، هو سر هذه المسألة الجليلة.

ثم جاء التذييل بنفي العلم عن أكثرهم ذما لهم على سوء مقالتهم فهي مئنة من جهلهم وفساد تصورهم، وإن علم الحق بعضهم، فأكثرهم لا يعلمون، وقلة منهم تعلم ولكنها، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تشايع الأكثرية، وتلك سمة علماء السوء في كل زمان فيعلمون الحق ولكنهم يخضعون لسلطان الملك أو لسلطان الجمهور وإن كان على خلاف الحق، فيرضون المخلوق بسخط الخالق، عز وجل، ثم لا ينالهم من جراء ذلك إلا سخط الباري، عز وجل، فضلا عما ينزل بهم من العقوبة العاجلة بحصول نقيض مقصودهم فلا يرضى عنهم من استرضوه ولا يأبه بهم من تزلفوا إليه فلا يزدادون في نظره إلا حقرا، وفي قلبه إلا بغضا وكرها، فذلك من عدل الرب، جل وعلا، فيهم.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير