تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمقابل: (فإذا جاءتهم الحسنة): (وإن تصبهم سيئة)، فـ: "إن" على الضد من "إذا" فتدل على ندرة وقوع الشرط التالي لها، والإصابة مظنة وقوع المكروه فتصيب صاحبها فجأة دون ترقب وقوع، فهي على الضد من المجيء من هذا الوجه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله،، وقد نكرت السيئة مئنة من التقليل، بخلاف تعريف الحسنة بـ: "أل" الجنسية الاستغراقية فهي مئنة من العموم الذي يفيد التكثير، فالسيئة هي العارض الذي لا يبقى طويلا بل مآله الزوال، ولو بعد حين فـ: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)، فالشدة بتراء لا دوام لها، فحصل الطباق بين الأجزاء الثلاثة في كل شطر على جهة المقابلة بين السياقين باعتبار مجموع الألفاظ كما قرر البلاغيون في تعريف المقابلة فهي طباق بين معان متعددة في سياقين متقابلين.

وفي مقابل نسبة الحسنة لهم باعتبار كونهم، بحسب اعتقادهم، السبب في وقوعها، في مقابل: (يطيروا)، فجاء الجواب بالمضارع مئنة من التجدد والاستمرار، فضلا عن استحضار الصورة فذلك من زيد العناية ببيانها، فكلما نزلت بهم نازلة ردوا شؤمها إلى موسى، عليه السلام، وقومه، فهم السبب في وقوعها، وتلك غفلة عظيمة منهم عن سبب الشؤم الذي ينالهم بكفرهم وإعراضهم عن اتباع الرسول المبعوث لهم، فتلك جهة الإضافة إلى العبد، فالشؤم يناله بما كسبت يداه فـ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، و: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وأما جهة الإضافة إلى الرب، جل وعلا، فهي جهة الخلق والجزاء، فقد خلق جزاء ذلك الكفر والإعراض من صور العذاب الذي ينالهم بشؤم معاصيهم التي اكتسبوها بإرادات اختيارية لا تخرج عن مشيئة رب البرية، جل وعلا، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا راد لقضائه الكوني وإن كفر أهل الأرض جميعا بقضائه الشرعي.

وبتحرير جهة الإضافة في هذا الباب الجليل تنحل إشكالات كثيرة، وإلى طرف من ذلك أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضا فحيث جعل الطائر معهم والسيئة من نفس العبد فهو على وجهة السبب والموجب أي الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومهما فإن أسبابه قائمة بكم كما تقول: شرك منك وشؤمك فيك يراد به العمل وطائرك معك وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له المجازي به عدلا وحكمة فالطائر يراد به العمل وجزاؤه فالمضاف إلى العبد العمل والمضاف إلى الرب الجزاء فطائركم معكم طائر العمل وطائركم عند الله الجزاء.

فما جاءت به الرسل ليس سببا لشيء من المصائب ولا تكون طاعة الله ورسوله سببا لمصيبة قط بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرا في الدنيا والآخرة ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين وكذلك ما امتحنوا به من الضراء وأذى الكفار لهم ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجبه وإنما امتحنوا به ليخلص ما فيهم من الشر فامتحنوا بذلك كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص من غشه والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبعها فالامتحان يمحص المؤمن من ذلك الذي هو من موجبات طبعه كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرا ومعصيته لا تجلب إلا شرا ولهذا قال سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ". اهـ

"شفاء العليل"، ص262.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير