تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالوحي الصحيح المنزل: نصيب، وإن كان لها من غذاء البدن أوفره.

وجاءت الرياح مجموعة مئنة من تعدد المنافع، فذلك أبلغ في تقرير المنة الربانية على النوع الإنساني، فرياح تسوق السحاب، وأخرى تسوق الفلك، وثالثة تلقح النبات، فـ: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)، والتلاقح هنا يحتمل تلاقح السحاب بقرينة عطف إنزال الماء عليه بفاء تفيد التعقيب ولا تخلو من معنى السببية، ويحتمل تلاقح النبات بحمل الرياح لحبوب اللقاح .... إلخ، فتتعدد أنواعها بتعدد منافعها، فهي كالبشير الذي يتقدم بالخبر المفرح تعجيلا بالمسرة، فتتقدم الرياح المطر بشرا بين يديه، فذلك من التشبيه التمثيلي، إذ انتزع صورة مركبة من البشير حال وفوده بالبشرى لصورة الرياح حال هبوبها توطئة لقدوم الغيث: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).

وقرأ الجمهور: (نُشُرا) بضم النون والشين: فذلك مما يلائم التذييل بوصف النهار بالنشور في الآية السابقة: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إذ فيه تبعث الأجساد من مراقدها، فكذلك الماء الذي تسوقه الرياح إذ به تبعث قوى الحياة في الزرع النابت من الأرض، وكل ذلك إنما سيق للدلالة على إمكانية بعث الأجساد، فالبعث من الموتة الصغرى مئنة من البعث من الموتة الكبرى، وإحياء الأرض الموات بزرع كان عدما فوجد مئنة من إعادة نشر الأجساد، فإن الإعادة لموجود سلفا أهون من إبداع المخلوق من العدم ابتداء، فيكون ذلك من قبيل قياس الأولى، على ما اطرد من دلالات التنزيل العقلية في إثبات القضايا الكلية، فالتنزيل: أخبار صحيحة ودلائل عقلية صريحة.

وأضيفت الرحمة إليه، جل وعلا، عناية بشأنها، فذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه على جهة العناية والتنويه بالذكر، أو هي رحمته التي هي وصفه الذاتي، فتكون الإضافة من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، ويكون المراد حينئذ: أثرها، فالصفة الربانية غير مخلوقة بداهة، وآثارها في الأرض من الرحمات الكائنة بالكلمات التكوينية النافذة: مخلوقة، فكل نعمة في الكون هي أثر من آثار صفات جماله، كما أن كل نقمة فيه هي أثر من آثار صفات جلاله تبارك وتعالى.

والرحمة كما تقدم في مواضع سابقة مادة تقبل الانقسام إلى:

وصف الذات الرباني فهو غير مخلوق.

وآثاره في دار الابتلاء: فهي مخلوقة كما تقدم.

وآثاره في دار الجزاء: فالجنة رحمته جل وعلا.

ورحمة النبوة: وهي أعظم الرحمات المنزلة إلى النوع الإنساني، كما تقدم مرارا، وهي بالنظر إلى مادتها، وهي الكلمات الشرعية الحاكمة: غير مخلوقة، فكلمات الرب، جل وعلا، من أوصاف ذاته القدسية، وبالنظر إلى المرسَل بها وهو الرسول الملكي فالرسول البشري: مخلوقة، فكل ما سوى الله، عز وجل، مخلوق بداهة.

فتتنوع دلالة مادة: "الرحمة" تبعا لتنوع مواردها، فلكل مورد معنى يعينه السياق الذي يرد فيه، على ما تقدم مرارا من دلالة السياق على المعنى المراد.

ثم جاء الالتفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المجموع على جهة التعظيم في مقام الامتنان بإنزال ماء الحياة من السماء:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا: فذلك من الإنزال الكوني في مقام الامتنان بالنعمة الكونية، والإنزال كالإرسال سواء بسواء:

فمنه الإنزال الكوني: على جهة النعمة وأظهر صوره: إنزال الغيث كما في هذا السياق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير